حوار مع د. برهان غليون

التراث رأسمال ورثناه، بالإمكان الإفادة منه وتنميته، كما بالإمكان تركه وإهماله، والبحث عن بديل له.

وقد وجدت صحفية عربية ^[1] حاورت د. برهان غليون -الأستاذ في جامعة السوربون بفرنسا- فسألته: كيف تنظر إلى قضية التراث؟

وقد جاءت إجابته مطولة آخذ هنا جزءا منها.

يرى د. غليون أن التراث هو الرأسمال الخاص، الذي تملكه الجماعة والذي تركه الأجداد للتعامل مع التاريخ، وهذا التراث قد يكون جيدا صافيا، أو بحاجة إلى تصفية، إلا أنه رأسمال جاهز، لم يتعب فيه جيلنا، ولا هو مضطر لدفنه والتخلص منه، وقدرة الجماعة وقوتها تتمثل في القدرة على إدارة هذا الرأسمال، أو هذا التراث المادي والمعنوي، قد أدعي أن ما ورثني والدي بالعملة "المحلية" لا يعادل ما ورثه صديق لي بالعملة الصعبة، لكن مصيرنا، هو وأنا، لا يرتبط بهذا الإرث وحده، بل بقدرتنا على استثماره، كما قد يهدر صديقي إرثه من العملة الصعبة، وينمو مالي ليصبح كثيرا. [ ص: 25 ]

ليس من الواجـب على أجـدادنا أن يورثونا رأس المال، الـذي نريده، كمـا ليس من حـقنـا أن نـهـدره كمـا نشـاء، لـقـد أورثـونا مـا استـطـاعوا في ظروفهم التاريخية، ومن واجبنا نحن أن نعيد فيه النظر، لنضاعف الرصيد العامل فيه، ونخفف جهد الإمكان الرصيد السلبي، هكذا التاريخ، كل جماعة تحمـل تاريـخـها، وهـي تتعـامـل برصيـدها ورأسـمالهـا، لقـد أورثنا الأجـداد لغة وآدابا وأفـكارا، كما أورثونا أرضـا ربما تعـدل قارات، وموقعا من أهم المواقع الاستراتيجية.

ولكل إرث مشاكله، فالموقع الجيد مطلوب الدفاع عنه بشكل أقوى، والأدب الغني يستدعي رفع الهمة في الإبداع، فأي أمة عندها مثل أدبنا العربي، لا تقبل بسهولة تكريس كل من هب ودب ليكون أديبا كبيرا.

باختصار، علينا أن نطور الإيجابي من هذا التراث، ونهذب السلبي، ونحل ما فيه من مشاكل، فكما لا نستطيع أن نغير موقعنا الجغرافي، أو نستبدل وطننا الصحراوي بغيره، بل علينا حمايته وتطويع الصحراء للإفادة منها، فإن عشنا نبكي هذا الإرث الصحراوي، فلن نغير شيئا، ولن نحصل على وطن آخر، وقد نفقد الموجود المطلوب؛ إذن أن نحول الصحراء إلى مستودع لطاقة بديلة، ولأنواع من الزراعة الجديدة المناسبة، لكن من لا يرى وطنه إلا بعين غريبة، ومن يتربى على كرهه، فلن يستطيع أن يفهمه أولا، ولن يتحمس لتثميره وتطويره، هكذا أفهم إشكالية التراث. [ ص: 26 ]

فإذا كان قسم من مثقفينا يشعر بأن التراث يشكل عبئا علينا، وعقبة أمـام تطـورنا، فسبب ذلك أنه أقـل من التـراث، وأضعـف في تفكيره وتكوينه من أن تحول التراث في ذهن "البعض" إلى عقيدة سلبية وتدميرية، لم تحتفظ منه إلا بأمـور العقوبات والمنع والتحريم، ونسيت جوانبه العقلية والإيجابية، ولمـاذا يصبح لهذا الخطاب - أي الاعتزاز بالتراث- صدى في الأوساط الشعبية أو المثقفة؟ ولا يجب أن يعمينا هذا الخطاب عن حقيقة التراث والتعامل معه...أهـ.

سؤال: بعد الاستماع لهذا النص الطويل أريد أن أتساءل مع كاتبه: من يستحق المحاكمة والمساءلة: نحن أم التراث؟

جواب: يبدو أن الإنسان يريد أن ينسب كل نجاح لنفسه، وقد يغمط حقوق كثيرين ساهموا معه، فإذا فشل فتش عن كبش فداء، فإن لم يجد رمى فشله على القدر، وهنا وجدنا الكبش - أو بعضنا- في التراث، فهو المذنب الأكبر والمسؤول الأعظم عن كل فشل نلقاه.

سـؤال: لـو وقف بعض أعـداء الـتـراث وصـرخ، وما أكثر الذين يصـرخـون اليـوم!! وقـال: لا، لم نفـشـل ولن نفشـل، وسيأتي يوم نجر الأسد من ذيله، فما الجواب؟

جواب: هذا جيد، وإذن فلنعمل مقارنة بيننا وبين اليابان.

سؤال: لماذا اخترت اليابان دون شعب آخر؟ [ ص: 27 ]

الجواب: لأننا سبقنا اليابان بمحاولة النهوض بنصف قرن، فقد أرسلت مصر بعوثا إلى أوروبا، وبعد نصف قرن حاولت اليابان ذلك، بل أرسلت إلى مصر بعثة كي تستفيد من التجربة المصرية، وفعلا جعلتها برئاسة رجل دين كما فعلت مصر، ثم لنقارن اليوم ما وصلت إليه اليابان وما وصلنا إليه؟

لي كتيب متـواضـع عن تجربة اليـابـان، على أمـل أن نستـفيـد منـهـا، وممـا توصـلت إليه، أن اليابان تتـلمذت على الغرب، وحاولت نقل الحضارة بـما فيها من صناعة وعلوم وتكنولوجيا، ولكنها لم تنسلخ من تراثها حتى اليـوم، لقد تتلمذ الياباني على الغرب فقلده أولا، ثم راح يبدع ما استطاع، حـتى جـاء اليوم الذي رأينا التلميذ وقد تقدم على أستاذه، وراح ينافسه منافسه الند للند.

سؤال: وما فعلنا نحن بإيجاز؟

جـواب: لقـد كنا وما نزال مجرد.. زبون.. والزبون يأخذ حاجته ويدفع ثم يذهب، أرجو أن استعرض تجربة فريدة، وأسلط الضوء عليها، فهي تحمل دلالات كبيرة ومعاني عظيمة. [ ص: 28 ]

حوار مع د. برهان غليون

التراث رأسمال ورثناه، بالإمكان الإفادة منه وتنميته، كما بالإمكان تركه وإهماله، والبحث عن بديل له.

وقد وجدت صحفية عربية ^[1] حاورت د. برهان غليون -الأستاذ في جامعة السوربون بفرنسا- فسألته: كيف تنظر إلى قضية التراث؟

وقد جاءت إجابته مطولة آخذ هنا جزءًا منها.

يرى د. غليون أن التراث هو الرأسمال الخاص، الذي تملكه الجماعة والذي تركه الأجداد للتعامل مع التاريخ، وهذا التراث قد يكون جيدًا صافيًا، أو بحاجة إلى تصفية، إلا أنه رأسمال جاهز، لم يتعب فيه جيلنا، ولا هو مضطر لدفنه والتخلص منه، وقدرة الجماعة وقوتها تتمثل في القدرة على إدارة هذا الرأسمال، أو هذا التراث المادي والمعنوي، قد أدَّعي أن ما ورّثني والدي بالعملة "المحلية" لا يعادل ما ورثه صديق لي بالعملة الصعبة، لكن مصيرنا، هو وأنا، لا يرتبط بهذا الإرث وحده، بل بقدرتنا على استثماره، كما قد يهدر صديقي إرثه من العملة الصعبة، وينمو مالي ليصبح كثيرًا. [ ص: 25 ]

ليس من الواجـب على أجـدادنا أن يورثونا رأس المال، الـذي نريده، كمـا ليس من حـقنـا أن نـهـدره كمـا نشـاء، لـقـد أورثـونا مـا استـطـاعوا في ظروفهم التاريخية، ومن واجبنا نحن أن نعيد فيه النظر، لنضاعف الرصيد العامل فيه، ونخفف جهد الإمكان الرصيد السلبي، هكذا التاريخ، كل جماعة تحمـل تاريـخـها، وهـي تتعـامـل برصيـدها ورأسـمالهـا، لقـد أورثنا الأجـداد لغة وآدابًا وأفـكارًا، كما أورثونا أرضـًا ربما تعـدل قارات، وموقعًا من أهم المواقع الاستراتيجية.

ولكل إرث مشاكله، فالموقع الجيد مطلوب الدفاع عنه بشكل أقوى، والأدب الغني يستدعي رفع الهمة في الإبداع، فأي أمة عندها مثل أدبنا العربي، لا تقبل بسهولة تكريس كل من هب ودب ليكون أديبًا كبيرًا.

باختصار، علينا أن نطور الإيجابي من هذا التراث، ونهذب السلبي، ونحل ما فيه من مشاكل، فكما لا نستطيع أن نغير موقعنا الجغرافي، أو نستبدل وطننا الصحراوي بغيره، بل علينا حمايته وتطويع الصحراء للإفادة منها، فإن عشنا نبكي هذا الإرث الصحراوي، فلن نغير شيئًا، ولن نحصل على وطن آخر، وقد نفقد الموجود المطلوب؛ إذن أن نحول الصحراء إلى مستودع لطاقة بديلة، ولأنواع من الزراعة الجديدة المناسبة، لكن من لا يرى وطنه إلا بعين غريبة، ومن يتربى على كرهه، فلن يستطيع أن يفهمه أولًا، ولن يتحمس لتثميره وتطويره، هكذا أفهم إشكالية التراث. [ ص: 26 ]

فإذا كان قسم من مثقفينا يشعر بأن التراث يشكل عبئًا علينا، وعقبة أمـام تطـورنا، فسبب ذلك أنه أقـل من التـراث، وأضعـف في تفكيره وتكوينه من أن تحول التراث في ذهن "البعض" إلى عقيدة سلبية وتدميرية، لم تحتفظ منه إلا بأمـور العقوبات والمنع والتحريم، ونسيت جوانبه العقلية والإيجابية، ولمـاذا يصبح لهذا الخطاب - أي الاعتزاز بالتراث- صدى في الأوساط الشعبية أو المثقفة؟ ولا يجب أن يعمينا هذا الخطاب عن حقيقة التراث والتعامل معه...أهـ.

سؤال: بعد الاستماع لهذا النص الطويل أريد أن أتساءل مع كاتبه: من يستحق المحاكمة والمساءلة: نحن أم التراث؟

جواب: يبدو أن الإنسان يريد أن ينسب كل نجاح لنفسه، وقد يغمط حقوق كثيرين ساهموا معه، فإذا فشل فتش عن كبش فداء، فإن لم يجد رمى فشله على القدر، وهنا وجدنا الكبش - أو بعضنا- في التراث، فهو المذنب الأكبر والمسؤول الأعظم عن كل فشل نلقاه.

سـؤال: لـو وقف بعض أعـداء الـتـراث وصـرخ، وما أكثر الذين يصـرخـون اليـوم!! وقـال: لا، لم نفـشـل ولن نفشـل، وسيأتي يوم نجر الأسد من ذيله، فما الجواب؟

جواب: هذا جيد، وإذن فلنعمل مقارنة بيننا وبين اليابان.

سؤال: لماذا اخترت اليابان دون شعب آخر؟ [ ص: 27 ]

الجواب: لأننا سبقنا اليابان بمحاولة النهوض بنصف قرن، فقد أرسلت مصر بعوثًا إلى أوروبا، وبعد نصف قرن حاولت اليابان ذلك، بل أرسلت إلى مصر بعثة كي تستفيد من التجربة المصرية، وفعلًا جعلتها برئاسة رجل دين كما فعلت مصر، ثم لنقارن اليوم ما وصلت إليه اليابان وما وصلنا إليه؟

لي كُتيب متـواضـع عن تجربة اليـابـان، على أمـل أن نستـفيـد منـهـا، وممـا توصـلت إليه، أن اليابان تتـلمذت على الغرب، وحاولت نقل الحضارة بـما فيها من صناعة وعلوم وتكنولوجيا، ولكنها لم تنسلخ من تراثها حتى اليـوم، لقد تتلمذ الياباني على الغرب فقلده أولًا، ثم راح يبدع ما استطاع، حـتى جـاء اليوم الذي رأينا التلميذ وقد تقدم على أستاذه، وراح ينافسه منافسه الند للند.

سؤال: وما فعلنا نحن بإيجاز؟

جـواب: لقـد كنا وما نزال مجرد.. زبون.. والزبون يأخذ حاجته ويدفع ثم يذهب، أرجو أن استعرض تجربة فريدة، وأسلط الضوء عليها، فهي تحمل دلالات كبيرة ومعاني عظيمة. [ ص: 28 ]