عمرو وملك الإسكندرية
عمرو بن العاص رضي الله عنه أحد دهاة العرب، تولى فتح مصر وحكمها لعمر وعثمان ومعاوية، رضي الله عنهم، حتى توفي، وكان لثقته بنفسه وحسن تخلصه يؤثر مقابلة الأعداء بنفسه، يقول [1] :
خرج جيش من المسلمين - أنا أميرهم -حتى نزلنا الإسكندرية، فقال عظيم من عظمائهم: أخرجوا إلي رجلا يكلمني وأكلمه، فقلت: لا يخرج إليه غيري، قال: فخرجت إليه ومعي ترجماني ومعه ترجمانه، فقال: ما أنتم؟ فقلت: نحن العرب، ونحن أهل الشوك، ونحن أهل بيت الله الحرام، كنا أضيق الناس أرضا، وأجهدهم عيشا، نأكل الميتة والدم، ويغير بعضنا على بعض، حتى خرج فينا رجل ليس بأعظمنا يومئذ، ولا بأكثرنا مالا ، فقال أنا رسول الله إليكم، فأمرنا بما لا نعرف، ونهانا عما كنا عليه، وكان عليه آباؤنا، فكذبناه ورددنا عليه مقالته، حتى خرج إليه قوم غيرنا فقاتلنا وظهر علينا وغلبنا، وتنـاول من يليه من العرب فقاتلهم حتى ظهر عليهم ، ولو يعلم من ورائي من العـرب مـا أنتم فيه من العيش لم يبق أحد إلا جاءكم حتى يشرككم فيـما أنتم فيـه من العيش. فضحـك ، ثـم قال: إن رسولكم قد صـدق، [ ص: 44 ] قد جـاءتنا رسلنا بمثل الذي جاء به رسولكم ، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم لم يقاتلكم أحـد إلا غلبتموه ، ولن يشارككم أحد إلا ظهرتم عليه ، وإن فعـلتم مثل الذي فعلنا وتركتم أمر نبيكم لم تكونوا أكثر عددا منا ولا أشد منا قوة".
إنه وصف جيد لواقع عاشه العرب قبل الإسلام وبعده، وإجابة من حاكم الإسكندرية تنم عن معرفة جيدة بمواطن القوة والضعف، وعوامل النصر والهزيمة، فالعرب الذين حملوا الإسلام للعالم، لم يكونوا يوما أكثر عددا وعدة من الفـرس أو الروم، ولكنهم يملـكون عقيـدة حية، لا يملك مثلها الفرس أو الروم، وهنا من المفيد أن نستذكر ثلاثة أحوال للعرب.
سؤال: ثلاثة أحوال أم ثلاث مراحل متميزة؟
جواب: سمها ما شئت: أولها: كيف كان حال العرب قبل الإسلام؟ وثانيها: كيف صار حالهم بعد أن حملوا الإسلام وتمسكوا به، شريعة وعقيدة وحضارة؟ وثالثها: كيف صار حالهم بعد أن تراخى تمسكهم بالإسلام، وجرى نوع من التساهل في عقديتهم، والجمود في أمر التحضر والتمدد؟ وفي هذا كفاية لمن يريد أن يعتبر.
في حياة أمتنا رجال ربانيون، كانت نفوسهم كبيرة وهممهم عالية، جعلوا همهم الأول طلب رضا مولاهم، وكانت الدنيا بكل ما فيها آخر ما يشغل قلوبهم، يروي لنا الذهبي أن هشام بن عبد الملك الأموي دخل الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله هناك، فقال له: سلني حاجتك، قال سالم: إني أستحي من [ ص: 45 ] الله تعالى أن أسأل في بيته غيره، فلما خرجا قال هشام: الآن فسل حاجتك، قـال: من حـوائـج الدنيا أم الآخـرة؟ قال: من حوائج الدنيا، قال سالم: والله ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟
مـنـطـق الرجـال الكبار، والـنـفوس العـفـيـفـة، مـنـطـق رجـل رباني يستـحي أن يسأل أحدا غير خالقه، فاللهم أبعد الطمع عن نفوسنا، ولا تجعلنا نتوجه بالسؤال لغيرك، يا أرحم الراحمين.
سـؤال: مازالت العـرب، قـديـما وحـديثا، تحب الكرم، وتتناقل أخباره، فما السر وراءه؟
جواب: لكل أمة صفات تحبها وأخرى تكرهها، والكرم على رأس الصفات المحببة للعرب، وبفضل هذه الصفة الجيدة ربما عاش الناس، وسدت فاقة كثير، ولكن أن يقع الكرم من إنسان معروف في مجتمعه، فذلك لا غرابة فيه، وأن يقع من عبد وقاطع طريق، وقاتل سافك للدم، فذلك أمر غريب، يذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه الرائع "الإمتاع والمؤانسة" [2] ، أن عبدا أسـودا كان يأوي إلى قنـطرة، وكان فاتـكا قـاطـعا للطريق، وتجمـع لـديـه مال فاشـترى جارية بألف دينار، وكانت رائعة الجمال، وهذا المبلغ يساوي في زمـاننا كذا مليونا، فمـا صـارت إليه طـلبـها فـامتنـعت، فـقـال لهـا: ما تكرهين مـني؟ قالت: أكرهـك كما أنت، فقـال لهـا: مـا تحبين؟ قالت: [ ص: 46 ] أن تبيعـني، قـال لها: أو خير من ذلك؟ أعتقك وأهب لك ألف دينار، قالت: نعم، فأعتقها وأعطاها ألف دينار بحضرة القاضي "أبي الدقاق"، فعجب الناس منه ومن همته وسماحته، ومن صبره على كلامها، وترك مكافأتها على كراهتها".
إنها أريحية وكرم نفس ليس فوق كرم، ومن إنسان لا ينتظر منه مثل هذا الفعل، ولكنها نفوس كبيرة، محبة للخير والذكر الحسن، وإن جمعت إلى ذلك قطع الطريق وسفك الدماء، وهذا يدل على أن بعض النفوس تحمل نوازع الخير، مع ما تمارسه من إجرام وقتل وسفك للدم، وصدق الله القائل عن الإنسان: ( وهديناه النجدين ) (البلد:10).
فالإنسان ليس مجرما بفطرته ولا شريرا كذلك، وهو أهل للاهتداء متى وجد من يأخذ بيده ويشجعه على ذلك. [ ص: 47 ]