من فقه عمر رضي الله عنه
قـدمـت مـقـولـة للخـلـيـفـة الرائـد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يقول فيها: "لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة" [1] .
هذا البناء المتكامل، وجدت د. برهان غليون ينسج على منواله في كتابه القيم (الدولة والدين)، فيقول [2] : "إن هدف الدين - وهـو يعني الإسـلام - هو بناء الجماعة الأهلية، أي بناء الإنسان، فيما وراء الدولة وقبلها وأمامها وبعدها، ولا دولة من دون جماعة، ولا سياسة من دون دين، أي من دون مستودع وخزان رئيسي للقيم الإنسانية والمثل والفضائل الأخلاقية، ولا يحسن بنا تبذير المكانة والقيمة والثروة الروحية، التي تنبع من الدين، وليس لها حتى الآن، ولن يكون لها مصدر آخر، في الممارسة السياسية والقانونية اليومية، أي في تحقيق سلطة هذه الفئة أو تلك وبناء هذه الدولة أو تلك، بل أكثر من ذلك فإن تحول الدولة إلى دولة قومية، أي خاضعة للمجتمع، وغير مفصولة عنه وخادمة له، ليس له ضمانة إلا تـمتع المجتمع بلحمة أهلية، ليست نابعة [ ص: 57 ] من الدولة ولا مرتبطة بها، أي تابعة لمصدر توحيد إضافي، يقوي من موقفه ومن عزيمته معا، في وجه سلطان الدولة".
هذا التصور للدين ومكانته يرفضه بعض أبنائنا؛ لأن آخرين خلف البحار فعلوا ذلك، وإن اختلف الدين واختلفت الأمة، وهذا يذكرنا بقياس يقول: أنت تتنفس، والبقرة تتنفس، فتكون النتيجة: أنت بقرة.
ليـس كل ما حصل في مكان يصلح ليعمم على أي مكان، فهناك قضـايـا مـوضـوعيـة تخـص الـدين مثـلا كمـا تـخـص الشعب، وقد قلدت أمتنا كثـيـرا مـن الأمـم فـي الغـرب، ومـا زالت تـقـلـده، والنـتـيـجـة حرث في البحر أو قبض للريح.
قانون الحياة صارم، وسفن الكون لا تحابي أحدا، فمن جد واجتهد واسـتـحـق الريـادة والـقـيـادة، دانت لـه، فـإن تـكاسـل أو تـجاهل، خـسـر القيـادة وصارت لغيره، حتى ولو كان كافرا؛ قيادة العالم ليست حكرا على أحد ولـو كان شعـب الله المـخـتـار، فعدالة الله تأبى أن يقود من ليس أهلا للـقـيـادة، وأن يتـرأس العـالـم من ليـس أهلا للرئاسة، ومن السنن الكبرى أن لا يبقى القوي قويا أبد الدهر، ولا الغني غنيا أبد الدهر، فالفقير يغتني، والغني يفتقر، والقوي يضعف، والضعيف يتقوى، وصدق الله العظيم إذ يقول: ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران:140)؛ سنة التداول هـذه تـنـادي: أيـها الضعيـف لا تيـأس، فمجـال القوة مفتـوح؛ أيهـا المغلوب لا تيأس، فمجـال الغلبة أمـامـك مفتـوح؛ وفي ذلك فليتـنـافس المتنـافسـون، [ ص: 58 ] وفي "الناعورة" درس كبير، ففي كل دورة تصل الأواني، التي كانت في الأسفل إلى الأعـلى، فـتـصـب ما فيـهـا من المـاء، وفي نـفـس الـدورة تـهـبـط الأواني، التي كانت في الأعلى لتصير في الأسفل، وهكذا يعمل دولاب الكون، صعود دائم، وهبوط دائم، ودورة متواصلة.
في تراثنا تجارب؛ وهذه "درة" أختم بها.
فقد نقل الذهبي أن أبا جابر قال: "أقبل يزيد بن عبد الملك بن مروان قاصدا مجلس (مكحول) فهم منا أن نوسع له، فقال - أي مكحول -: دعوه، ليتعلم التواضع" [3] .
درس في التواضع، كثيرا ما نحتاج مثله وأمثاله في حياتنا؛ ويقدم على مجلس شخص كبير، فينادي بعض من في المجـلس: وسـعـوا للشيخ، إن درس في احترام الكبير وتوقير ذي الشيبة، والله الموفق. [ ص: 59 ]