أولا: في مجال التأصيل الفكري:
لو حاولنا جمع أقوال العلماء التأصيلية، التي تصلح أن تكون أرضية خصبة لإيجاد فكرة متكاملة حول الاستفادة من الآخر، فسنرى أنها تدور حول عدد من القضايا، أهمها:
1- توضيح مقاصد الشرع:
كانت مقاصد الدين شديدة الوضوح في المتوسط العام خلال القرون الهجرية الثلاثة الأولى، وهي القرون التي أثنى عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم بدأت أنوار [ ص: 84 ] هذه المقاصد تخبو وتتضاءل في عقول وممارسات كثير من المسلمين؛ نتيجة الإغراق في الجزئيات والتفاصيل والدوران مع الأشكال والمباني، مما جعل بعض أعلام العلم من المسلمين يكفون عن الدوران مع المسائل الفردية ويركزون جهودهم على صياغة وإبراز الأفكار الكلية، التي تساعد في توضيح مقاصد الدين، تلك المقاصد التي تبتغي تحقيق مصالح الناس في داري المعاش والمعاد.
ومن أهم العلماء الذين ناقشوا هذه القضايا: الجويني، الغزالي، الرازي، ابن الجوزي، ابن حزم، العز بن عبد السلام، ابن تيمية، ابن القيم، الشاطبي، القرافي، ابن الوزير، ولي الله الدهلوي، الشوكاني. وسنكتفي في هذا المقام بالمرور السريع على آراء أربعة من هؤلاء الأعلام، وراعينا أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ينتمي إلى واحد من المذاهب السنية الأربعة، وسنرتبهم حسب الأقدمية على النحو الآتي:
الأول: العز بن عبد السلام (ت:660هـ):
وينتمي سلطان العلماء العز بن عبد السلام إلى المذهب الشافعي، وقد اهتم ببيان مقاصد الدين، وهو من أقدم من تحدث عن الضرورات أو الكليات الخمس، التي جاء الإسلام من أجل تحقيقها، وهي: حفظ الدين، العقل، المال، العرض، الدم، وذلك في كتابه الجميل "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، حيث أوضح أن أحكام الإسلام كلها معللة بهذه الأمور.
يقـول ابن عبد السـلام: "أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح.
[ ص: 85 ] وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات"، وأكد أن العقل في هذه المنطقة مهيأ لإدراك المتناسبات والمصالح والمفاسد وراجحهما ومرجوحهما ومعرفة الحسن من القبيح" [1] .
ولما كانت الاستفادة من علوم الآخر وخبراته مسألة دنيوية في المقام الأول فإن العقل يستقل بتقدير مدى تحقيق المصلحة من المفسدة وفق "قواعد" سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وهذا يعني أن حكم الاستفادة من الآخر ليس مباحا فحسب بل إنه يتقلب بين أحكام: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم، وذلك وفق الإحاطة الكلية بالواقع والدراسة الدقيقة للوقائع، لكن الاستفادة من حيث المبدأ ستكون وفق هذا الفهم من الأمور الضرورية، فكيف إذا بينت الدراسة الموضوعية الخالية من الأهواء والتعصب أن تحقيق بعض المصالح أو درء بعض المفاسد منوط بها؟!.
الثاني: ابن قيم الجوزية (ت:751هـ):
ابن القيم من الناحية التقليدية هو من أعلام المذهب الحنبلي رغم نبذه للتقليد، وكان علما بارزا من أعلام التأصيل في التاريخ الإسلامي كله، فقد تصدى للتقليد بقوة الفقيه وتمكن الخبير، واستفاد من مواهبه الذاتية التي حباه [ ص: 86 ] الله بها ومن خبرات أستاذه ابن تيمية في تأصيل كثير من القضايا، التي أصابها البلى واعتورها التقليد.
وقد ركز على إصلاح الخلل الكبير في البنى الفكرية للفقهاء، الذين أعمتهم كثافة التفاصيل عن رؤية المقاصد، وشغلتهم الجزئيات عن إدراك الكليات، واسـتهلكت الفروع طاقـاتهم بعيدا عن دراسـة الأصـول، ولهؤلاء في المقام الأول وضع ابن القيم قواعده القيمة، التي تحقق المصالح وتدرأ المفاسد في كتابه الرائع: "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، وواضح من العنوان مدى اهتمامه بالفقهاء المفتين، الذين ينظر الناس إليهم كأنهم ناطقون باسم رب العالمين وموقعون عنه، حيث جسد بحق المنهج المقاصدي لشيخه ابن تيمية (ت:728هـ) وأضاف إليه من ذكائه العبقري الشيء الكثير، بحيث بدا الكتاب كأنه ترياق للفوضى الفقهية، التي شاعت في تلك الأزمنة والتي أحالت النصوص إلى جزر منعزلة لا اتصال بينها، وخلقت في التراث الفقهي والفكري الكثير من الثقوب والثغرات، التي تسللت من خلالها شبه الفلسفات الوافدة والتقاليد الراكدة، وليصبح التدين الإسلامي عند العدد الأغلب من المسلمين تدينا شعائريا يميل إلى السلبية والانسحاب من ساحات العمل والأخذ بالأسباب إلى مضايق الانطوائية والتواكل.
وفي هذا الجو الآسن انفصلت الشعائر والمشاعر عن مقاصدها حتى بدت دائرة العبودية منحصرة في محراب الصلاة؛ لتتعطل معظم العبادات في محراب الحياة، [ ص: 87 ] وفقدت شعب الإيمان تأثيرها في شعاب الحياة، ليفقد المسلمون فاعليتهم في عمارة الأرض وصناعة الحياة، تلك الفاعلية، التي بوأتهم مكانة خير أمة أخرجت للناس، وبذلك أصبحوا غثاء لا يسمن ولا يغني من جوع التخلف الحضاري المقيت!
وقد بدأ ابن القيم كتابه (إعلام الموقعين ...) بالإشارة إلى منهج السلف في التلقي، وأوضح كيف مال كثير من عوام المسلمين إلى الاجترار والتقليد، وتقديس الأشخاص على حساب الأفكار، وأبان كيف وقفوا ضد العلماء المجددين، إلى أن قال عن هؤلاء:
"فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون، ومؤثره على ما سواه عندهم مغبون، نصبوا لمن خالفهم في طريقهم الحبائل، وبغوا له الغوائل، ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد، وقالوا لإخوانهم: إنا نخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد"! [2] .
ومجمل القول: إن ابن القيم من أكثر من جسد اهتمام الإسلام بتحقيق مصـالـح الناس، وقعد القواعد لتصب في هـذا الاتجـاه، سـواء في كتابه "إعلام الموقعين" أو في كتابه: "الطرق الحكمـيـة في السيـاسة الشـرعـيـة"، وكذلك في سائر كتبه وفتاواه وآرائه ومواقفه، وهي شديدة الغناء والثراء وتتسم بالعمق والأصالة.
[ ص: 88 ] الثالث: أبو إسحاق الشاطبي (ت:790هـ):
ينحدر الإمام الشاطبي من بلاد الأندلس، وينتمي كما هو حال هذه البلاد وكل بلاد شمال إفريقيا وغربها والسودان إلى المذهب المالكي، وقد اشتهرت هذه المناطق بالاهتمام الشديد بالفقه المقاصدي، مما أثر على تكوين واهتمامات الشاطبي.
وإذا كان فكر المقاصد قد ظهرت مقدماته عند الغزالي وبرز عند العز بن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم؛ فقد نضج عند الشاطبي وبلغ أشده على يديه، حيث اهتم - أي الشاطبي - بالتأصيل له، والانطلاق من قواعده الواضحة في ذهنه، وذلك في كتابه الرائع "الموافقات في أصول الشريعة" وإلى حد ما في كتابه الآخر: "الاعتصام". لقد نجح في إيضاح مقاصد الشريعة، حيث قسمها إلى ثلاثة أنواع: الضروريات والحاجيات والتحسينيات. وتكلم بتوسع عن الضرورات الخمس، مؤكدا أن الإسلام بجملته ما جاء إلا من أجل تحقيقها وحفظها.
وأفاض في الحـديث عن المصـالـح المرسلة، ضاربا لهـا الأمثلة الكثيرة، ومما قاله في هذا السياق: "أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم في الدين، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به... فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد" [3] .
[ ص: 89 ] وهو بهذا الإصرار على جعل المصالح المرسلة ضمن الوسائل لا المقاصد، إنما يريد أن يعطيها مرونة أكبر، بمعنى أنها من المتغيرات لا من الثوابت، وهذا الأمر بلا شك يعطي مبررا شرعيا آخر للاستفادة من الآخر.
الرابع: ولي الله الدهلوي (ت:1766م):
ولد ولي الله الدهلوي في دهلي بالهند وإليها ينتسب، وهو الاسم القديم للعاصمة الهندية في عصرنا هذا، وذلك في أواخر عصر الدولة الإسلامية المغولية، التي حكمت الهند أكثر من خمسة قرون، وكانت في عهده تعاني من انقسامات واختلافات حتى صارت في غاية الضعف، في الوقت الذي كان فيه الغربيون يحصدون أولى ثمار الثورة الصناعية وعصر الكشوفات، وكانت بريطانيا في بداية بروزها كقوة عظمى لتصبح في ما بعد الإمبراطورية، التي لا تغيب عنها الشمس، بعد أن سيطرت على بلاد واسعة في كافة قارات العالم، بما في تلك البلدان الهند والتي انتزعتها من المغول المسلمين وصارت تلقبها بدرة التاج البريطاني، وهي البلد الذي ينتمي له هذا العلم الكبير والذي يعده كثيرون أبرز علماء الهند الإسلامية في كل القرون، فقد وصل إلى مرحلة التجديد المطلق رغم انتمائه إلى المذهب الحنفي.
حاول الدهلوي بكل ما أوتي من قوة وقف تراجع الدولة المغولية ولكن دون جدوى، فركز على إصلاح منظومة الفقه والأفكار من خلال ثورة ثقافية قادها هو وأبناؤه ومحبوه، وأكثر ما برز تجديده المتميز لمنظومة الأفكار في كتابه [ ص: 90 ] الرائع "حجة الله البالغة" والذي يتكون من مجلدين زاخرين بأسرار وحكم الشريعة الإسلامية، حيث عمل على إبراز مقاصد الشريعة بصورة منقطعة النظير، على الأقل عند أعلام المذهب الحنفي، الذين امتازوا بالإغراق في مسائل الفروع مما قلل من تميزهم في المقاصد، مقارنة بالمذاهب الثلاثة الأخرى.
وفي كتابه الآخر "عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد" انحاز الدهلوي إلى الاجتهاد، ودعا إلى نبذ التقليد، عبر العودة المباشرة إلى القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية وإعمال العقل فيهما في تأصيل الأحكام الجديدة واستيعاب المتغيرات، حيث اهتم اهتماما خاصا بقضية تدبر القرآن؛ لعلمه أن أي عملية اجتهادية لا يمكن أن تأتي بجديد ما لم يتم تثوير النصوص القرآنية.
وما دام الدهلوي قد انفك عن المسائل الجزئية وانحاز إلى دراسة وتأصيل المقاصد العامة للشريعة الإسلامية؛ فإنه قد صار من أعلام التأصيل للاستفادة من الآخر حتى لو لم يناقش هذه المسألة بصورة مباشرة، إذ لم تكن المسألة ملحة، وغير مطروحة للنقاش في عصره، لكن منظومة التجديد الفكري التي صاغها في كتبه عامة وفي "حجة الله البالغة" خاصة تستوعب بشكل واضح مسائل الاقتباس والاستعارة من الآخرين، فهي لا تنفصل عن الاجتهاد والتجديد اللذين دعا لهما بكل قوة، فهو ممن شن الغارة على التقليد وفتح أبواب الاجتهاد بشكل واسع.
وفي هذا الإطار قسم الدهلوي أفعال النبي صلى الله عليه وسلم -كما فعل سائر الأصوليين- إلى قسمـين، الأول: ما كان على سبيل النبوة والبلاغ، والآخر: [ ص: 91 ] ما كان على سبيل البشرية والاجتهاد، وأوضح هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل في بعض المسائل مثلما يفعل سائر قومه [4] ، أي أنه استفاد من التراث العربي، الذي كان أصحابه من أهل الشرك بالله، لكن ما أخذه لا يمس بالطبع العقيدة ولا ثوابت الشريعة من قريب أو بعيد.
وعنون في كتابه الآنف الذكر (باب الفرق بين المصالح والشرائع) ، حيث ذكر فيه أن الشارع الحكيم أفادنا علمين، الأول: علم المصالح والمفاسد، والآخر: علم الحدود والشرائع والفرائض [5] ، وفي علم المصالح والمفاسد ذكر أن الشارع رغب بتحصيل المصالح ودفع المفاسد عنها، لكنه ترك التفاصيل والمقادير والهيئات بدون تحديد [6] ، كأنه بلغة اليوم يقول: إنها من المتغيرات، التي يجوز إعمال العقل فيها، ومن ثم تصبح من المواضع، التي يجوز فيها الاستعارة والاقتباس من الآخرين.
ووجدناه أيضا يصوغ (باب إقامة المرتفقات) وهي المنافع والمصالح فقال فيه: "والراسخ في العلم يعلم أن الشرع لم يجئ في النكاح والطلاق والمعاملات والزينة واللباس والقضـاء والحدود وقسمة الغنيمة... بما لم يكن لهم به علم، [ ص: 92 ] أو يترددوا فيه إذا كلفوا به.. نعم إنما وقع إقامة المعوج وتصحيح السقيم ..."، وأكد أن الأنبياء لم يبتدعوا كل شيء "لكنهم نفوا تحريفات الجاهلين، وضبطوا بالأوقات والأركان ما كان مبهما، وأشاعوا بين الناس ما كان خاملا..." [7] ، وبهذا فإنه يؤكد أن الشريعة الإسلامية قد استفادت مما سبقها في الأمور التعبدية المحضة، فكيف بالأمور الدنيوية في عصرنا هذا؟!
2- تطوير مصادر التشريع:
عندما كف العقل المسلم عن الاجتهاد والابتكار، وارتفعت أصوات دعاة التقليد لتقول: "ليس في الإمكان أحسن مما كان"، وتؤكد: أن "الأوائل لم يتركوا للأواخر شيئا"؛ عندها صارت أقوال الأئمة والمجتهدين في أذهان غلاة التقليد كأنها نصوص مستقلة بالتحريم والتحليل؛ وهنا شعر أعلام الأمة بالخطر الكبير، فكابدوا المشاق وجاهدوا تيارات التقليد والركود من أجل توسيع دائرة الاجتهاد، التي ضاقت حتى كادت أن تصبح عند التقليديين مثل ثقب الإبرة أو سم الخياط، وعمل هؤلاء من أجل إعطاء مساحة أكبر للعقل لكي يفكر بدون قيود وبعيدا عن القوالب الجامدة، مع إيجاد الضوابط، التي تمنع الانسلاخ عن المقاصد وتمنح التيارات التقليدية نوعا من الطمأنينة على أن العقل لن يتغول على النقل، وأن المجتهدين لن يفتئتوا على المشرع الحكيم.
وقد أشرنا آنفا إلى توسع الشاطبي في الحديث عن المصالح المرسلة في كتاباته وخاصة في [ ص: 93 ] كتابه القيم "الاعتصام"، وانتقل للحديث عن الاستحسان كمصدر من مصادر التشريع، معيدا أصل هذا المصدر إلى القرآن الكريم، حيث أورد قوله سبحانه وتعالى: فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه (الزمر:17-18) وفسـر هذه الآية بقوله: "هو ما تستحسنه عقولهم" [8] .
وإذا طبقنا هـذه المقـولـة الشاطبية على ما نحن بصدده من الاستفادة من الآخر، فإن المقياس هـو ما تستـحسنه العـقول السوية، أي أنه يعطي مجالا واسعا لحركة العـقل واجتـهاده بدون محاذير ومخاوف التقليديين المبالغ فيها والتي تقف حجر عثرة أمام أي اجتـهاد حقيقي يؤدي إلى التجديد ومخالفة المألوف!
واستـدل بعضـهم في هـذه الـدائرة بـمـا قـالـه الصـحـابي عـبـد الله ابن مسعود رضي الله عنه : "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" [9] . ومن اهتمام العلماء بهذه المقولة رفعها بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن الصحيح أنها مـوقـوفة عـلى عبـد الله بن مسعـود رضي الله عنه . وكان يكفي العودة إلى القرآن، كما أوردنا في المبحث الأول، فإن تدبر عدد من الآيات يوصلنا إلى حتمية الاستفادة من الآخر، وخاصة في مراحل الضعف، التي يمر بها المسلمون في [ ص: 94 ] مقابل القوة الحضارية لغيرهم، كما في عصرنا هذا.
ولأن الاستحسان آلية من آليات فقه المقاصد، فقد اعتبرته بعض المذاهب مصدرا من مصادر التشريع العقلية، بل ذهب الإمام مالك إلى أن الاستحسان تسعة أعشار العلم، كما نقل عنه الإمام الشاطبي ذاته [10] .
ولا شك أن جزءا من الأعراف الفاعلة في مجتمعاتنا الإسلامية موروثة من ثقافة الآخر؛ لأن الشعوب، التي أسلمت في كل مناطق العالم لم تكن قبل ذلك إسلامية، وبما فيها الشعوب التي دانت بالديانات الكتابية وشعب الجزيرة العربية، لأنها حرفت وغيرت، ولذلك اهتم العلماء بالتأصيل لهذه القضية، وانطلاقا من مقاصد الشريعة توصل كثير منهم إلى اعتبار العرف، بل واعتبار "شرع من قبلنا" من مصادر التشريع الإسلامي [11] .
3- تجفيف منابع الانغلاق على الذات:
تصدى كبار علماء هذه الأمة للمبررات، التي انتصبت كموانع للاجتهاد أمام العقل المسلم، وهذا يعني -بالنسبة لموضوعنا- أنه نوع من التصدي لظاهرة الانغلاق على الذات وتجفيف منابعها؛ لأن إعمال العقل سيؤدي بالضرورة إلى البحث عن معالجات للثغرات الموجودة في جدر الأمة، وسيؤدي إلى الانفتاح على الآخر، الذي لا بد أن يمتلك في بعض المفردات الحياتية عددا من نقاط [ ص: 95 ] القوة والنفع، مما سيوصل حتما إلى ضرورة الاقتباس والاستفادة.
ومن أهم هذه المنابع الضارة، الخلط بين البدعة والاجتهاد، أو بين الابتداع والإبداع، هذا الخلط جاء نتيجة خلط آخر بين الأمور العبادية والأمور العادية، فالأصل في العبادات التوقيف، بينما الأصل في العاديات هو الحركة والتغيير, ولذلك عرف الشاطبي البدعة بقوله:
"فالبدعة إذن عبارة عن: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه.. وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات".. وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة، فيقول: "البدعة: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية" [12] ، بما يعني أنه أخرج العاديات من مسمى البدعة التي ظلت صخرة تتحطم عليها الكثير من موجات التجديد والتطوير التي ظهرت في حقب سابقة ومعاصرة.
وذهب العز بن عبد السلام إلى أن "البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهي منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد [ ص: 96 ] المباح فهي مباحة" [13] .
وقد تابع العز بن عبد السلام في هذا التقسيم للبدعة تلميذه النجيب الإمام القرافي وهو من أهم علماء الأصول وأعلام المقاصد في المذهب المالكي، ومن العجيب أن الشاطبي انتقدهما على هذا التقسيم، لكن من يقرأ نقده يجد أن تركيزه قد انصب على نقد المصطلح وليس المضمون، ويتضح من مضمون كلام الطرفين أنهما يفرقان بجلاء بين البدعة السيئة وبين السنة الحسنة، أو بين ما قد يدعو إليه الهوى وما تدعو إليه المصلحة [14] ، بمعنى أنه يتفق معهما في المقصد ويصل إلى ذات النتيجة، التي أراداها.
وقد وسع الشاطبي مساحة السنن الحسنة بصورة أكبر بكثير من دائرة البدع، حتى في مجال العبادات نفسها، التي يفترض أنها منطقة مغلقة أمام مزيد من الاجتهادات؛ لأنها لا تتغير بتغير الزمان والمكان والناس.
وقد ذهب في هذا السياق إلى أن لكثير من المبتدعات أصولا تقرها في الدين، وذكر منها مثلا: تأسيس العلوم الخادمة للدين كعلم النحو والصرف، ومفردات اللغة، وأصول الفقه وأصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة، وجمع القرآن وغيرها [15] .
وبهذا التفريق الحاسم والواضح بين البدعة المفروضة وبين الإبداع [ ص: 97 ] المفروض، وأمثالهما من الثنائيات المتقابلة أو المتكاملة، عمل أعلام الأمة على تسهيل حركة العقل، بحيث يعمل في عالم الشهادة ويدور حول فلك المقاصد.. ولأن المقاصد هي ذاتها مصالح الناس، فإن ذلك يعني فتح الأبواب على مصـاريعها أمام الاقتباس من الآخر، كجـزء من المنظومة الاجتهـادية، التي تقوم على التجديد والابتكار في مواضع وعلى الغربلة والاقتباس في مواضع أخرى، ولا سـيما في فترات التراجع عن الركب الحضـاري مثل هذا الزمن، الذي تتسع الفجوة فيه بين قطار أمتنا المتهالك وبين قطار الحضارة الغربية، الذي يتقدم بسرعة البرق.
4 - الحث على اعتلاء سلم الموضوعية:
لا شك أن أعلام الأمة الكبار كانوا موضوعيين في ذواتهم، مع وجود فوارق نسبية بالطبع بينهم، وأنهم اجتهدوا بقوة لتخليص مجتمعاتهم من العوائق، التي تقف في طريق الموضوعية، مثل: الشخصانية، والتعصب، وادعاء امتلاك الحقيقة الكاملة، وعدم التورع عن الفتوى بدون علم كاف، وغمط المنافسين فضلا عن الخصوم.
ولأن كثيرا من صور غمط الآخر تخرج من رحم العلم المنقوص أو تأتي ثمرة للجهل المركب، فقد ركز أعلام هذه الأمة على دعوة الجميع للتواضع والاعتراف بالجهل، وسؤال أصحاب العلم في المسائل المطلوبة ولو كانوا أقل شأنا في المكانة وحتى في مجمل العلم، وقد زخرت كتبنا التراثية بالكثير من [ ص: 98 ] المواقف، التي يتعلم فيها كبار العلماء على يد تلاميذهم أو يأتي من يسألهم فيردون بلا أدري دون أدنى تحرج، ورويت في هذا الشأن الكثير من القصص والأقوال، التي قد يستعجبها أغلب الناس في هذا الزمان [16] .
وسنكتفي في هذا المقام بهذه الحكاية ذات الدلالة والطرافة والتي يحكيها إمام أكبر المذاهب الفقهية ومن يلقبونه بالأمام الأعظم وهو أبو حنيفة النعمان. قال وكيع: قال لي أبو حنيفة:
"أخطأت في خمسة أبواب من المناسك، فعلمنيها حجام، وذلك أني حين أردت أن أحلق رأسي وقف علي حجام، فقلت له: بكم تحلق رأسي؟ فقال: أعراقي؟ قلت: نعم. قال: النسك لا يشارط عليه، اجلس. فجلست منحرفا عن القبلة، فقال لي: حول وجهك إلى القبلة. فحولته، وأردت أن أحلق من الجانب الأيسر، فقال: أدر الشق الأيمن من رأسك، فأدرته، وجعل يحلق وأنا ساكت، فقال: كبر. فجعلت أكبر حتى قمت لأذهب، فقال: إلى أين تريد؟ قلت: رحلي. قال: صل ركعتين، ثم امض. فقلت: ما ينبغي أن يكون ما رأيت من عقل هذا الحجام. فقلت: من أين لك ما أمرتني به ؟ فقال: رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا". ذكره المحب الطبري [17] .
[ ص: 99 ] وهكذا، فقد تعلم "الإمام الأكبر" على يد "حجام صغير"، وليس هذا فحسب، فهو يعلن هذا الأمر ويفاخر به أمام الناس ولا يجد أدنى تحرج من ذلك، فهذا هو ديدن الكبار، الذين لا يعانون من عقد نقص يحاولون إخفاءها بالتظاهر بالعلم، الذي يحيط بكل شيء ولا يعجزه شيء، ثم إن البيئة كلها كانت بيئة صحية في هذا المضمار، ولم يكن أبو حنيفة استثناء في ذلك، فهناك روايات أعجب وأكثر تنسب إلى الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة ومؤسس المذهب، الذي ينتسب إليه والذي قيل فيه: "لا يفتى ومالك في المدينة"!
إن ركوب قطار الموضوعية يحمل أصحابه إلى شواطئ النجاح وضفاف التفوق، ولا ريب أن التحلي بقيم الموضوعية يجعل أي شخص أو مجتمع حريصا على استكمال نواقص شخصيته وتقوية نقاط ضعفه، من خلال الاستفادة من نقاط تفوق الآخرين الوهبية وخبراتهم الكسبية، لكن مجانبة الموضوعية لا تمكن صاحبها من الاستفادة من الآخرين، بجانب أنها تغمط الكثير من الحقوق وتشيع الكراهية وتزرع الضغائن.