أولا: خصائص الإسلام تحتم الاستفادة من الآخر:
يمتلك الإسلام عددا من الخصائص، التي تميزه عن بقية الملل والنحل، وعند التمعن في هذه الخصائص سنجد أنها تدفع باتجاه ضرورة الاستفادة المنضبطة من الآخرين من نواحي عديدة، وذلك على النحو الآتي:
1- أن معجزته العظمى معجزة عقلية:
فالقرآن هو المعجزة العظمى لهذا الدين، فهو برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودليل قيومية هذا الدين، إذ يضم في طواياه البراهين الكاملة على كونه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد احتوى على أخبار الغيب مما هو متصل بالماضي، الذي خفي على أصحابه وعلاه غبار القرون [ ص: 125 ] الخـالية، وضم أخبار الحـاضر الذي كان هم نفوس لا يعلمـها إلا من يعـلم ما تخفي الصدور أو كان سرا محصورا بين اثنين، ثم إنه كشف عما سيحدث في المستقـبـل من أحـداث، وهـذا الإخبـار بالمـاضي والحـاضر والمستـقبل هو ما يسمونه بالإعجاز الغيبي.
وهناك الإعجاز العلمي، حيث تحدث القرآن عن عشرات الظواهر الطبيعية والكشوفات العلمية المعقدة والتي لم يكن في طاقة البشر معرفتها قبل آماد بسيطة من الزمن، لكنه أوردها بمنتهى الدقة كما ظهرت في عصر الانـفـجـار الـمـعـرفي والـتـقـدم الـتـكنـولـوجي، وذلك مصداقا لقوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (فصلت:53).
وقد أشار المولى عز وجل إلى البراهين التي يتضمنها القرآن عندما أورد مطلب المشركين بنزول معجزات مادية مثل معجزات الأنبياء السابقين ورده عليها، وذلك في قوله تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (العنكبوت:50-51) ، وتكمن رحمة الله بهذه الأمة والمشار إليها في نهاية الآية السابقة في أن المعجزة المادية إذا كذب بها الناس فلا يبقى أمل في إمكانية إيمانهم؛ ولذلك كان يعقب تلك المعجزات المادية الخارقة نزول العذاب، الذي يستأصل شأفتهم ثم يأتي بغيرهم.
[ ص: 126 ] ولكون أمة الإسلام هي خاتمة الأمم فقد جنبها الله العذاب الاستئصالي من خلال إبعادها عن أسبابه، ولذلك جاءت معجزة الإسلام معجزة عقلية وهي القرآن الكريم، فحتى لو كذب به أحد اليوم فقد يؤمن به غدا أو بعد سنة أو أكثر.
ولما كانت معجزة الإسلام هي القرآن وهي معجزة عقلية، فإن هذا دليل آخر على تكريم الإسلام للعقل واحتفائه به، ومن ثم لا يمكن أن تجد أي تناقض بين النقل الصريح والعقل الصحيح في هذا الدين العظيم [1] .
وكون معجزة الإسلام معجزة عقلية فإن هذا يقتضي احتفاءه بالإنتاج العقلي النافع، أيا كان مصدره، وترحيبه بالإبداع البشري مهما كان أصحابه، ولما كان القرآن لا يزال يهدي للتي هي أقوم؛ فإن من معاني الهداية للتي هي أقوم الأمر بسؤال أهل التخصص والدراية بغض النظر عن معتقداتهم واتجاهاتهم، والدعوة للاستفادة من خبراتهم النافعة وإنجازاتهم الـمقدرة.
2- كون رسالته عالمية:
كانت الرسالات السابقة محدودة زمانا ومكانا وناسا، أما رسالة الإسلام فهي عامة للناس جميعا، ومن ثم لابد لمعجزتها وهدايتها أن تعبر حدود الزمان والمكان حتى تصل بيسر إلى كل الناس، فكان القرآن هو تلك المعجزة العابرة [ ص: 127 ] لحدود الزمان والمكان، وتلك الهداية الواصلة إلى أيدي الناس جميعا بيسر وسهولة، حيث تستوعبه عقولهم وتفهمه مداركهم: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (القمر:32) ، إذ يراعي الفروق الفردية بينهم ويستوعب الفوارق التي تخلقها ظروفهم الزمانية والمكانية المختلفة وتحتمها طبائعهم وأعرافهم المتنوعة، قال تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا (الفرقان:1) ، ومن ثم فإن عالميته بقدر ما تعني قدرته على تلبية أشواق وحاجات الناس جميعا فإنها تقتضي استفادة منظومته الحضارية من خبرات وإنـجازات البشر، التي ثبت صلاحها وتأكد نفعها، وذلك عبر آليات الاجتهاد المعروفة وضمن الضوابط، التي سنأتي عليها في المطلب القادم.
3- مساواته بين البشر:
هناك ملل ونحل تدعي العالمية وتعمل في آفاقها الرحيبة، لكنها لا تمتلك منهج الإسلام في المساواة بين الناس بشكل حاسم، فالقرآن يقرر هذه القيمة بشكل صارم ولا يقبل أي مساومة فيها، ابتداء من تأكيده على الأصل الإنساني الواحد، كما في قوله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (النساء:1) ، وقـوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (الحجرات:13).
[ ص: 128 ] ونلاحظ في آيتي النساء والحجرات أن الله توجه بالنداء للناس جميعا وليس للمؤمنين فحسب داعيا إياهم إلى التقوى، وأنه ختم كل آية بفاصلة تزرع في القلب خوف الله من خلال التأكيد على علمه تعالى بحال عباده وخبرته بطبائعهم ومراقبته لما يعملون؛ مما يبين أصالة الإسلام في تأكيد هذا الأصل الإنساني الواحد، وأنه لا يكتفي بالتشريعات بل يوقظ قبل ذلك الضمير، الذي يعتنق الفكرة ويؤمن بها.
وبناء على ما سطره القرآن فإننا نستطيع الجزم بأن الإسلام، من حيث المبدأ، قد كرم جميع البشر لكونهم آدميين، قال تعالى: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (الإسراء:70) ، وهذا هو التفضيل الوهبي وهو عطية الله المجانية للجميع، ولا تنبني عليه جنة أو نار.
أما التفضيل الآخر الوارد في آية الحجرات فهو التفضيل الكسبي القائم على الابتلاء، وهو متاح للجميع وفق معيار تعبد الله الناس بتحقيقه في حياتهم وهو معيار التقوى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ومن ثم لا مكان لدعاوى الأعراق النقية والدماء الزرقاء، ولا للألوان المفضلة والعقول المتفوقة، فإن مكانة الإنسان في الإسلام تتحدد وفق إمكاناته العلمية والعملية، ويكتسب من الفضل بقدر ما يمتلك من الفضائل، ومرقاة التقوى هي سلم العروج نحو آفاق التفضيل، وهذا السلم متاح للجميع، وذلك من خلال المسارعة إلى طاعة الخالق والمسابقة في خدمة الخلق.
[ ص: 129 ] وما ينطبق في هذا السياق على الأفراد ينطبق على المجتمعات والأمم، ولابد لكل شعب من طبائع يمتاز بها ومن نقاط قوة يتسلح بها، ومن ثم فإن من الواجب استفادة المسلمين من خبرات سائر الأمم ولا سيما أنهم أمة الشهود الحضاري على الناس، ومن متطلبات الشهود الحضاري تبوء ذروة القوة والبحث للبشر عن ما هو أنفع وأفضل في المعاش والمعاد، وإذا كان الأفضل في شؤون المعاش غير موجود عند المسلمين فإن من الضروري اقتباسه من مصدره مهما كان أصحابه على ضلال في العقيدة وشؤون الغيب.
4- الأصل في علاقته مع الآخرين هو السلام والتعاون:
ينظر الإسلام إلى الناس عامة على أنهم إخوة في آدم وحواء، كما أسلفنا، ويترك لهم حرية اعتناق ما يريدون من الإيمان أو الكفر، مع التحذير من شقاوة من كفر في الدنيا وخسارته في الآخرة، لكنه لا يجبر أحدا على اعتناق الإسلام ولا يقبل ذلك من أحد: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي (البقرة:256) ، واستخدم كلمة إكراه وهي نكرة ليشمل النهي كل صور الإكراه الظاهرة والخفية.
ومن هنا فإنه يجعل الأصل في علاقة أبنائه مع غيرهم السلام لا الحرب، والتـعاون لا التباين، إذ أن الـحـرب استثناء، والعداوة خروج على الأصل، ولا تصح إلا للضرورة.
وقد دعا الإسلام أتباعه إلى الاستقامة في علاقتهم مع الآخرين، فقال تعالى: فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (التوبة:7) [ ص: 130 ] وتدخل الاستقامة في علاقة المؤمن بالكافرين ضمن معاني الاستقامة، التي يدعو المؤمن ربه بها في كل ركعة من الصلوات المفروضة والنافلة بقوله: اهدنا الصراط المستقيم (الفاتحة:6) بدلالة تذييل الآية بقوله تعالى: إن الله يحب المتقين
فالمتقون هم الذين لا يجدهم الله حيث نهاهم ولا يفقدهم حيث أمرهم، حتى ولو تعلق الأمر باحترام المواثيق والعهود مع المشركين، فقد وصل تبجيل هذه العهود إلى حد أن الله الذي جعل لجزيرة العرب أحكاما استثنائية مشددة، لكونها قاعدة الإسلام في العالم كله، لم يتجاوز هذا الأمر حتى في هذا الاستثناء، فقد قال عن الذين لم ينقصوا المسلمين شيئا من بنود المعاهدة ولم يظاهروا أحدا في عداوته ضد المسلمين: فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (التوبة:4) ، ونلاحظ مرة أخرى أن الله ربط الالتزام بالعهد بقيمة التقوى التي تظلل سائر العلائق وتضبط إيقاعات الحركة في نواحي الحياة كلها، أي أنه يسم الملتزمين بعهودهم مع المشركين بميسم التقوى.
ويدعو القرآن أتباعه للبحث عـن القواسـم المشـتركة مع الخـصـوم من الملل الأخرى وعلى رأسهم أهل الكتاب، قال تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء (آل عمران:64) ، وكلمة سواء كما يقول ابن تيمية [2] : "أي وسط؛ لأنه معتدل بين الجوانب".
[ ص: 131 ] وفي هذه الأثناء لابد من الحوار الطيب والجدال بالتي هي أحسن، قال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (العنكبوت:46) ، وبجانب التأكيد على القواسم المشتركة في هذه الآية، فإنها تقرر أن الجدال بما هو حسن لا يجوز إذا كان هناك ما هو أحسن منه، ذلك أنه سيحقق الهدف بنسبة كفاءة أقل مع وجود ما يمكنه تحقيق الهدف بنسبة كفاءة أعلى، فهل بعد هذا الأدب من أدب؟ وهل من يرسي هذه الآداب والقيم في التعامل مع الآخر يمكن أن يمنع أصحابه من الاستفادة من هؤلاء الناس في ما يعمر الأرض ويصنع الحياة؟!
5- جمعه المتوازن بين الثوابت والمتغيرات:
لقد جعل القرآن الفلاح ثمرة التفاعل بين الثبات على المبادئ والقيم وبين التطور في الوسائل والأساليب، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون (المائدة:35) ، حيث إن الوحي قد نص على الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان والناس والأحوال والعوائد، وترك ما دون ذلك للعقل البشري لكي يجتهد ويبتكر تارة ويقتبس ويستعير تارة أخرى.
ويرسـم الـقـرآن دور الـعـقـل في تـعـبـيره المحـكم والذي يـبـرز في الفـعـل وابتغوا ، إذ أن الابتغاء جهد عقلي واع وفعل ذاتي دائب، سواء أتعلق الأمر بالاجتهاد أم بالاقتباس، فكلاهما يدخلان ضمن المعنى العريض [ ص: 132 ] للاجتهاد، ولذلك أتبع الأمر بالاجتهاد الفكري بطلب الجهاد العملي، إذ أن معادلة الاجتهاد والجهاد هي التي تثمر الفلاح المنشـود، مع التذكير بأن الإسـلام لا يفصل أبدا بين الدنيا وبين الآخرة، بما يعني أن الفلاح الآخروي لا ينفك عن الفلاح الدنيوي!
ونستطيع الجزم بأن القرآن اهتم بإبراز المقاصد العريضة والقيم الكلية، وترك للعقل البشري البحث عن الوسائل والأساليب الأكثر نجاعة وكفاءة في تحقيق الأهداف المرجوة والمقاصد المنشودة [3] ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:
- وأمرهم شورى بينهم (الشورى:38) ، وشاورهم في الأمر (آل عمران:159) ، فقد أمر تعالى بالمشاورة لكنه لم يوضح ما هي الموضوعات، التي تجب فيها المشاورة، ولم يذكر من هم أهل الشورى ولا كيفية اختيار أهل الحل والعقد، ولا كيفية تحقيق الشورى في الواقع.
وقد فهم الصحابة هذا الأمر جيدا، ولذلك لم يجمدوا على طريقة واحدة، ومن ذلك طريقة انتخاب رئيس الدولة، فقد سلك الصحابة طريقة فريدة في انتخاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبعد أقل من ثلاث سنوات انتخبوا عمر رضي الله عنه بطريقة مختلفة، وبعد نحو عقد من الزمن لم يثبت الصحابة على هذه الطريقة في اختيار عثمان رضي الله عنه حيث رشح لهم عمر رضي الله عنه طريقة ارتضوها قبل استشهاده، ثم سلكوا طريقة رابعة في انتخاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أي أن [ ص: 133 ] الصحابة سلكوا أربع طرق مختلفة في انتخاب الخلفاء الراشدين الأربعة، رغم أن المدة الزمنية كلها لم تتجاوز الثلاثة عقود، ورغم المستوى الإيماني الرفيع، الذي يفترض أنه يحول دون بروز التطلعات الذاتية وانبعاث الاختلافات الناجمة عن الأهواء، ورغم انسجام مكونات ذلك المجتمع وخلوه من التناقضات والتعقيدات، التي تزخر بها مجتمعاتنا في هذا الزمن .
وفي هذا السياق فإننا نتساءل بكل صدق وحرقة: ما الذي يمنع المسلمين من اقتباس الآليات، التي توصلت إليها الديمقراطية الغربية في هذا المضمار والتي أدت إلى حسم الصراع على السلطة وحققت الاستقرار، الذي صرف سائر الطاقات نحو العمارة وجلب أسباب القوة والتقدم والرفاه، كما هو مشاهد؟ ولماذا لا تتم الاستفادة من هذه الآليات، التي أثبتت كفاءتها إلى حد كبير، مع تطويع بعض ما نرى أنه لا يحقق أهدافنا بالكفاءة المنشودة؟
- إن الله يأمر بالعدل والإحسان (النحل:90) ، فقد نص الله على الأمر بإقامة العدل والإحسان، لكنه تعالى لم يورد الآليات التي تحقق العدل وتجسد الإحسان في الواقع العملي، وذلك حتى لا يقيد العقل عن اختيار ما يحقق مصالحه ويراعي ظروفه وما يستوعب متغيراته في كل عصر ومصر، واليوم نجد أن شعوبا، حققت نجاحات باهرة في مجال العدل الاجتماعي كدول الغرب عموما ودول الشمال الأوروبي خصوصا (الدول الإسكندنافية) ، فهل سيقف الإسلام حجر عثرة أمام الاستفادة من خبرات تلك الشعوب التي توصلت إلى تلك المؤسسات والوسائل، التي قضت على [ ص: 134 ] الفقر والفاقة ومنعت الاستئثار والاحتكار، وذلك بعد أن خاضت حروبا جهوية وطبقية ومذهبية وطائفية وعرقية التهمت أجساد الملايين من أبناء شعوبها؟
إن الطبائع البشرية تتقارب، فهل من الضروري أن نمر بكافة المنعطفات التاريـخية الدامية، التي مر بـها الأوربيـون حـتى نـصل إلى نفس ما وصلوا إليه؟ أم يمكننا قراءة تلك التجارب الثرية بوعي للخروج منها بدروس تمنع تكرار الأخطاء، وتساعد في تجسير العلاقات بين الفقراء والأغنياء، لنختصر زمن النهوض ونوفر الكثير من الطاقات والأموال صارفين إياها في معتركات البناء؟
- وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (الحج:77) ، فقد أمر القرآن بفعل الخير، وحدد الجزاء على القيام به، لكنه لم يتحدث عن كيفيات فعـل الـخـير، ولـم يـحدد أنواع الخير ومجالاته، ولم يذكر أوقاته ولا مستحقـيـه، ولم يورد مقاديره ولا طرائق تنظيمه، ويمتلك الغرب اليوم تجارب ثرية في تنظيم العمل الطوعي والخيري.
فهناك مؤسسات خيرية ميزانياتها السنوية تفوق ميزانيات بعض الدول في العالم الثالث، وهي تدير أعمالها بكفاءة بالغة، فهل من الضروري أن نسلك طرائق سلفنا في هذا المضمار والتي تقوم على الثقة في الغالب وتركن على الضمير الإيماني؟ أم أن العقل والمصلحة يقتضيان أن نقرأ تجارب الآخرين ونقتبس ما فيها من إيجابيات ثم نمزجها بمواريثنا لنخرج بشكل عصري يحقق المقاصد بأعلى درجة من الكفاءة؟
[ ص: 135 ] - وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ... (الأنفال:60) ، فقد تضمنت الآية إيجاب العمل الجاد من أجل إعداد القوة، التي ترهب عدو الله وعدو المسلمين، ولكنها لم تحدد نوع هـذه الـقـوة، وهـل هي عسـكرية أو اقتـصـادية أو إعـلامية أو صناعية أو سياسية أو ثقافية أو غيرها سوى ما ذكرته من رباط الخيل؛ لأنه كان وسيلة أساسية حاسمة في كسب الحروب آنذاك، ثم إنها لم تحدد الطرائق والأساليب، التي ينبغي أن نسلكها في هذا الإعداد، وهل يتم ذلك عبر الاهتمام بالكادر البشري أم بالصناعات؟ أم يتم عبر الدخول من أبواب متفرقة؟
ومن ثم، فإن الأمر متروك للاجتهاد البشري ولا سيما أن صياغة القرآن تعزز هذا الاتجاه، فإن تنكير كلمة قوة توجب الاستغراق في البحث عن سائر العناصر، التي تساهم في صناعة القوة وتعديل الموازين لصالح أمة الإسلام.
وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد نزل النص على واقعه فجعل الرمي هو العنصر البارز في صناعة القوة الضاربة في زمنه وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : "ألا إن القوة الرمي" ورددها ثلاثا [4] ؛ فإن كل عصر يشهد تغيرا في ترتيب عناصر القوة، من حيث أهميتها في إبراز قوة الأمم وتحقيق القهر لأعدائها، كما يحدث في عصرنا هذا حيث أصبح الرمي يحتاج للطائرات والصواريخ والمدافع، بل وأصبحت القوة الإعلامية شديدة الأهمية في القصف والرمي.
[ ص: 136 ] فقد شهدنا كيانات سقطت في وحل الهزيمة لأن نصيبها من القوة الإعلامية والنفسية كان ضعيفا، والعكس صحيح فقد انتصرت دول وكيانات رغم ضعفها العسكري؛ لأنها امتلكت قوة إعلامية ضاربة وأحسنت استثمارها في قصف أعدائها والإغارة على نقاط قوتهم حتى جعلتها رميما، ومن ثم حققت انتصارات حاسمة ضدهم!
6- إيجابه السير في الأرض:
عرفنا في ما سبق أن الإسلام أوجب السير في الأرض لمعرفة عواقب الذين سبقوا، وهي دعوة مباشرة للاعتبار والاستفادة من دروس القوة والضعف ومن عبر الصعود والهبوط، وقد امتلأ القرآن بقصص السابقين من أجل رؤية سنن الله في الواقع ومعرفة كيف تعمل في إضعاف أمم تنكرت لها وفي تقوية أمم تمسكت بها، وكيف تتضافر هذه السنن في نهوض حضارات وسقوط أخرى، بحيث يجتنب المسلمون مقدمات النكوص والسقوط ويعانقون عوامل التقدم والنهوض، ومن ثم يمكن الجزم بأن الإسـلام عندما أوجب السـير في الأرض إنما فتح بابا آخر للاستفادة من الآخرين، سواء كانت الاستفادة إيجابية عبر اقتباس عوامل التميز ونقاط القوة أو سلبية بتجنب نقاط الضعف وعوامل التحلل والتراجع.
7- احترامه للتخصصات:
من المعلوم أن الإسلام يدعو أبناءه لاحترام التخصصات إلى أقصى حد، وذلك باكتشاف كل فرد لنقاط قوته وتنميتها وخدمة الملة من خلالها، وقد [ ص: 137 ] وردت آيات كثيرة بهذا الصدد سبق أن أوردنا بعضها في المبحث الأول، ومن الآيات التي توجه المؤمنين إلى الإقرار بهذا الأمر والمسابقة في العمل والإبداع من خلالها قوله تعالى: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير (البقرة:148) ، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن لكل أمة قبلة تتجه إليها، اعتمادا على أن هذه الآية جاءت في سياق الحديث عن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، غير أن تدبر النص قليلا يبين بجلاء أن اللفظ يفيد العموم والاستغراق، فلكل فرد وجهة يتجه نحوها في علمه وعمله مثل سائر الأعمال الكفائية، وإلا ما فائدة التعميم إن كان النص القرآني يريد التعيين أو التحديد؟
ويؤيد ما ذهبنا إليه أن الله قال في ذات الآية: فاستبقوا الخيرات .. والخيرات هي الأعمال التي تعود بالنفع والفائدة على الناس في شؤون المعاش والمعاد، وتدخل في صلبها الجهود التي تبذل في عمارة الأرض باستخراج خيراتها الدفينـة، وتحويلها إلى مواد لعمـارة الأرض وإلى وسـائل تقدم الرفاه للإنسـان في كافة مجالات الحياة؛ فإن التمتع بالطيبات من العبادات التي يؤجر عليها المسلم، كما هو معلوم، ذلك أن الإسلام يحث على فردسة الدنيا، ويجعل هذه الفردسة طريقا إلى فردوس الآخرة، إن تم ذلك وفق المنهج الرباني.
ومما يجدر التذكير به في هذا المقام أن الشعوب والأمم لها طبائع ومزايا عامة كالأفراد، حيث تؤثر على توجهاتها في الحياة وعلى طرائق تعاطيها مع المشاكل وأساليب تفاعلها مع التحديات، التي تعترض مسيرتها.
[ ص: 138 ] وقد يتساءل امرؤ فيقول: ما الحكمة إذا من إيراد آية التخصصات وسط آيات تتحدث عن تحويل القبلة؟ ويبدو لي أن الله أراد بعث رسالة بالغة الخطورة حول أهمية العمل من خلال التخصصات، وكأنه يقول بأن العبادة في محراب الحياة لن تتم بالشكل الأمثل ما لم نول وجوهنا شطر قبلة التخصصات، فهي التي توحد الأمة في محراب التكامل بين سائر المهن وتدفع بالجميع نحو البعد عن الفراغ والبطالة، اللتين تصنعان الكثير من الفجوات والتباينات، أما العمل المهني المتخصص فإنه يشعل الطاقات ويذكي المواهب ويشغل القدرات كلها في ما يبني ولا يهدم، وفي ما يوحد ولا يبدد.
وهكذا، فإن احترام الإسلام للتخصصات يوجب على أبنائه الانفتاح على مختلف الشعوب والأمم لمعرفة نقاط قوتها والاستفادة منها، ذلك أن معتركات النهوض الحضاري تحتاج إلى تضافر سائر الطاقات والخبرات واستدعاء كافة التجارب البشرية للاستقاء من عيونها النافعة.