ثالثا: الحضارة صناعة عالمية مشتركة:
الحضارة هي ثمرة التفاعل بين العلم والعمل أو بين المبادئ والممارسات، وتتدلى ثمارها اليانعة في التطور الثقافي والتقدم المدني، وهي بهذا التعريف ليست حكرا على دين أو أمة من دون بقية الأديان والأمم، بل هي ميراث عالمي، لكل أمة من أمم الأرض نصيب منها، سواء قل هذا النصيب أم كثر، وسيتضح هذا الأمر بجلاء من خلال النقاط الآتية:
1- العلم قيمة عابرة للأمم:
عندما نقرأ تأريخ الأمم جميعها سنجد أن كل أمة من الأمم، التي توزعت في قارات العالم الست، كان لها نصيب من العلم الذي استعمر به الإنسان الأرض ودبر به حياته على ظهر هذه البسيطة، كما كان الحال عند الصينيين والهنود والمصريين واليونانيين والرومان والفرس والأشوريين والفينيقيين والسبئيين والأنباط واليهود والمسلمين، مع وجود تفاوت بالطبع بين الأمم في نصيب كل منها من هذا العلم.
فلقد قامت جميع الحضارات على العلوم والآداب والفنون، مع التفاوت النسبي بينها، وكانت أكثرها قوة وأطولها عمرا هي أغزرها علما، وكلما انفتحت حضارة ما على بقية الحضارات، سواء كانت قديمة أو معاصرة، كانت أوفر علما وأقدر على مجابهة التحديات وأطول في عمرها من الحضارات المنغلقة أو الأقل انفتاحا.
[ ص: 151 ] ومن المؤكد أن الحضارة اليونانية قد استفادت من الحضارة المصرية القديمة، واستفادت الحضارة الرومانية من الحضارة اليونانية، وجاء المسلمون فاستفادوا من اليونانيين والروم بل ومن سائر الحضارات، الصينية والهندية والفارسية وحضارات العرب القديمة، وجاء الأوروبيون في عصر النهضة فأخذوا سائر علوم العرب وبعض ثقافتهم، فساهم ذلك بقوة في عملية الإقلاع الحضاري الغربي، التي ما تزال آثارها ونتائجها تترى حتى يومنا هذا، فقد استفاد الغربيون الكثير من حضارة المسلمين وفق شهادات المنصفين منهم [1] .
ويبدو أن أهم ما استفاده الغرب من الحضارة الإسلامية أمران:
الأول: المنهج التجريبي في العلوم، وهو الذي خرجت من رحمه سائر المبتكرات والاكتشافات، التي تنعم البشرية بتطبيقاتها التكنولوجية في هذا العصر.
الآخر: الدعوة للحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، وذلك بإبطال قداسة الحكام ورفض الحكم الثيوقراطي، ورفض وساطة الرهبان بين الناس وبين الله، مما طوره الغرب في المجال السياسي عبر ما يسمى بالنظام الديمقراطي وآلياته الانتخابية.
ومن يقرأ سيرة المصلحين الغربيين "مارتن لوثر" و"جون كالفن" سيلحظ [ ص: 152 ] تمرد هذين العلمين على بعض ما كان سائدا ومقدسا في أوروبا من قيم وتقاليد راسخة، وسيدرك أنهما اقتربا بشدة من الثقافة الإسلامية، التي كانت في تلك الأثناء ذات بريق جاذب، رغم انقسامات المسلمين وضعفهم العسكري، وذلك بسبب القوة الذاتية في الإسلام [2] .
إذا، العلم قيمة عظيمة، تساهم بفاعلية في الرفع من شأن الأمم، لكن مشكلة كثير من الأمم تكمن في أنها تعلم ظاهرا من الحياة الدنيا بينما تتخبط في جهل بهيم عندما يتعلق الأمر بالآخرة وعالم الغيب، ولذلك فإنها ترتكب من حيث لا تدري حماقات كبيرة في حق نفسها وفي حق من يتصل بها ويتعامل معها بعشوائية، قال تعالى: وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (الروم:6-7) ، ونلاحظ تأكيد هذه الحقيقة المرة من خلال تكرار ضمير الفصل (هم) رغم أن الفارق بينهما لم يتعد كلمتين .
ولأن العلم المادي قيمة إنسانية عامة فقد أتاحه الله لجميع الإنس بل والجن في قضية التحدي بالنفاذ من أقطـار السـماوات والأرض، قال تعالى: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (الرحمن:33) ، والسلطان هنا هو العلم [ ص: 153 ] الذي يسلط الإنسان على الظواهر الكونية ويبسط سيطرته على سائر الكائنات، وبه تصير للإنسان أيدي وأبصار يستطيع بها اكتشاف المجاهل وتجاوز المفاوز، ويتمكن عبرها من ترويض الصعاب وارتياد الآفاق، وبواسطتها يمتلك القدرة على تحويل الصحاري إلى جنات وارفة الظلال.
ومما يؤكد أن العلم ميراث بشري عام أن البشرية بكافة ثقافاتها وأعراقها تنعم اليوم بمنجزات العلم ،الذي قطع شوطا كبيرا جدا إلى الأمام على يد الغرب، فقد استفاد العالم كله من جاذبية نيوتن ونسبية إينشتين، ومن كشوفات كولمبس وماجلان، ومن كهرباء فاراداي ومصباح أديسون، ومن تلغراف جراهام بل، وطيران الأخوان رايت، ومن آلات الطباعة للألماني يوهان جوتنبرج، والآلة البخارية للأسكتلندي جيمس وات، بل إن هذه الاستفادة تعدت العلوم إلى الفنون والآداب، حيث استفاد كثيرون من مسرحيات وليم شكسبير وموسيقى بيتهوفن ورسومات بيكاسو.
2- الخبرة رحيق التجارب البشرية:
إذا كان العسل هو رحيق النحل بعد جولات كثيرة تقوم بها بين الشجر والجبال والأزهار؛ فإن الخبرة البشرية هي الرحيق البشري الذي يتولد نتيجة الكثير من التجارب في بساتين الحياة وحقولها الشائكة، وهي الكنانة التي تمنح الناس السهام، التي يريدونها كلما واجهتهم التحديات التي تمور بها الدنيا، فإن الحياة تزخر بالكثير من النوائب والخـطـوب، وليس على الناس أن يبدأوا حياتـهم من الصفر في كل جـيـل كأنـهم أبناء آدم الذين سكنوا الأرض أول [ ص: 154 ] مرة، إذ بإمكانهم أن يستلوا من كنانة التاريخ السهام التي يقتلون بها العداوات ويرمون بها المؤامرات، ويأخذون منها العصي التي يتكئون عليها كلما هبت رياح الفتن ودمدمت رعود التحديات!
ولولا القيمة العالية للخبرات ما احتوى القرآن على تلك القصص، التي شملت حوالي ثلث مساحته، ولا دعانا الله للسير في الأرض، ولا أمرنا بالاعتبار والاتعاظ من قصص الغابرين.
ونستطيع أن ندرك قيمة الخبرة من خلال وصف الله لنفسه في عشرات المواضع بالخبير (حوالي خمسة وأربعين موضعا) ، فهو خبير عليم، وخبير لطيف، وخبير حكيم، وخبير بصير، وهو خبير بما يعمل الناس وبما يصنع البشر، بل وخبير بما سيعملون: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (الـملك:14).
ولقد قال الله سبحانه لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا ينبئك مثل خبير (فاطر:14) والنبأ هو الخبر اليقين سواء تعلق الأمر بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو السياسة أو الرعي والصيد أو التكنولوجيا أو الخدمات، ولذلك عندما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم إحدى زوجاته بما أخفت من سر عنه كما جاء في القرآن: من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير (التحريم:3).
ومثلما أن كل زهرة مهما كان شأنها تساهم بأي قدر في صناعة عسل النحل فإن كل الشعوب تسـاهم في صناعة الخـبرة الحضـارية العـامة للبشر، مما يجعلها صالحة لكل البشر في منطلقاتها واتجاهاتها العامة؛ نتيجة تشابه [ ص: 155 ] الطبائع البشرية وتقارب القصص في مقدماتها ونتائجها أو في مدخلاتها ومخرجاتها، ولقد وصف الله عسل النحل فقال: يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس (النحل:69) ، والخبرة البشرية فيها شفاء للناس من أوجاع التجريب وتقوية لأجهزة ثقافتهم المناعية.
ولقد ظل أي ابتكار يظهر في حضارة ما ينتقل إلى الحضارات الأخرى ولو بعد حين، كما في الحضارات القديمة، ولو أخذنا اختراع الورق كمثال على مدى تأثير أي اختراع في بلد على سائر البلدان، لوجدنا أن الحضارة قرية واحدة متعددة المنازل، فقد اخترع الورق الصيني "تسي آي لون" سنة 105م، وفي القرن السادس أخذ العرب الورق الصيني وطوروا صناعته واحتكروها لزمن طويل حتى نقلها الأوروبيون عنهم.. ويرى الأمريكي مايكل هارت أن الورق هو أعظم اختراع عرفته البشرية، ولذلك فقد وضع مخترعه "تسي آي لون" في المرتبة السـابعة ضمن أعظم مائة شخصية أثرت في العالم في كل مراحل التاريخ البشري [3] .
ويظهر التفاعل الحضاري في مجال المدخلات والمخرجات معا، حيث تساهم كثير من الحضارات في تطوير ذات المنجز بمقدار ما، وعلى سبيل المثال قام الرياضي الإنجليزي "جون ماكليش" بتتبع تطور العدد عبر رحلة ممتعة في كثير من حضارات العالم، فوجد أن كثيرين قد ساهموا في هذا التطوير، حيث [ ص: 156 ] استعرض جهود الهنود الأمريكيين وشعب المايا، وسومر وبابل في بلاد الرافدين، ومصر القديمة، والصين القديمة، واليونان، مرورا بالعرب والخوارزميات، ووصولا إلى "فرانسيس بيكون" والنهضة الأوروبية، حتى رست سفينته عند الحاسوب الإليكتروني، وضمن هذه الرحلة في كتاب تحت عنوان: (العدد من الحضارات القديمة حتى عصر الكمبيوتر) [4] .
ويمكن القول: إن كل تقدم يحققه شعب من شعوب الأرض في أي مجال يتحول مع تتابع الإنجازات وتجويد المخرجات، إلى خبرة نافعة يمكن للآخرين أن يستفيدوا منها إذا أرادوا تحقيق ما حققه ذلك الشعب، دون أن يستهلكوا طاقاتهم في التجريب ودون أن ينفقوا من الأموال والأوقات ما أنفقه في الوصول إلى تلك النتائج، بل ويمكنهم البناء عليها وتجاوز من سلفهم.
وبذلك تكون الحضارة سلسلة متتابعة من الحلقات العلمية والوثبات العملية، التي تحققها البشرية بفضل الاستفادة من بعضها والبناء على ما توصل إليه من سبقوها، ولذلك فإن وتيرة الاكتشاف والابتكار تزداد سرعتها كلما مر الزمن؛ لأن كل جيل يصعد على كواهل التجارب والخبرات السابقة، وكلما ارتفع الإنسان أكثر رأى ما لم ير سلفه من البشر واكتشف ما لم يكتشفوه!
ولما كانت الحضارة الإسلامية من أغنى الحضارات وأكثرها إنجازا وأطولها [ ص: 157 ] عمرا؛ فقد استفادت من منجزاتها البشرية قاطبة في مختلف المجالات، ولقد سجل عدد من الباحثين الكثير من أوجه الاستفادة الإنسانية من حضارة المسلمين في عدد من الكتب القيمة [5] .