المطلب الأول
حوار النملة ونبي الله سليمان
عليه الصلاة والسلام
وقد بدا لنا من خلال بحثنا واستقصائنا أن الخطرات والمقدمات المقاصدية الأولى إنما كانت محصلة مجموعة من الكفاءات والمهارات القدرات، التي أعطتها بعض مخلوقات الله سبحانه وتعالى بما فيها الإنسان، سواء كان ذلك بالفطرة والجبلة أو بالكسب والتمهر، وبدت في تلك المشاهد والأحداث والقصص البشرية والحيوانية والحشرية، التي رواها لنا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ثم وجدت طريقها التدويني الأول بعد ذلك في اجتهادات المجتهدين، بدءا من الإمام "الشاطبي" ووصولا إلى "محمد الطاهر بن عاشور"، و"علال الفاسي"، و"عبد الوهاب خلاف"، و"أحمد الريسوني"، و"محمد الوكيلي"، و"عبد الله بن بية"، و"عبد المجيد النجار"، و"عبد الكريم حامدي"، وغيرهم..
ويعد توقفنا مع حوار النملة ونبي الله سليمان، عليه الصلاة والسلام، كمحطة مقاصدية تجلت من خلالها الأبعاد المقاصدية، التي سعت النملة [ ص: 194 ] لاستدراكها وتحصيلها عبر أدبيات الحوار المنطقي العادل والهادئ، إذ ضمن الله سبحانه وتعالى من خلال هذا الدرس القانوني والأخلاقي النبيل حقوق الحشرات أمام أقوى الملوك والممالك، وهو الذي توخيناه من خلال هذا الدرس القرآني، الذي دفعنا لتتبع مظانه في مصادر التفسير.
فقد أورد المفسرون [1] الكثير من الأقوال والآثار والأخبار حول نوع النملة، وشـكلها، وصنفها، وجنسـها، وجناحاها، وقومها، وعن الوادي، الذي - هو بالشام أو بالطائف أو باليمن أو بالعراق أو بالهند...- خاطبته فيه، وكيف أمر الله الريـح بأن لا يتـكلم أحد من الخلائـق إلا وحملت قوله إلى نبيه سـليمان، فبذلك سـمع سليمان، عليه السـلام، كلام النملة من مسـافة ثلاثة أميال، وأعجب بما أجراه الله على لسـانها من العلم والغيـب وبحكمتها وشـهادتها بدينه وخلقـه ورأفته وعـدله في ملكه، الذي لا بغي فيه ولا عدوان.
[ ص: 195 ] قيل: خرج سليمان بن داود، عليهما السلام، يستسقي، فمر بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: "اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك، فإما أن تسقينا وترزقنا، وإما أن تهلكنا".. فقال سليمان، عليه السلام: "ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم" [2] .
وقيل: إن النملة وعظته، وخشيت أن يحطم بريق ملكه وعظمته قلوب النمل فيشغلهن عن ذكر الله.. وقالت له: أما علمت لم سمي أبوك داود؟ قال: لا.. قالت: لأنه داوى جراحة فؤاده.. هل علمت لم سميت سليمان؟ قال: لا.. قالت: لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك [3] .
قال السعدي في تفسيره "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان":
"فنصحت هذه النملة وأسمعت النمل، إما بنفسها، ويكون الله قد أعطى النمل أسماعا خارقة للعادة؛ لأن التنبيه للنمل الذي قد ملأ الوادي بصوت نملة واحدة من أعجب العجائب، وإما بأنها أخبرت من حولها من النمل ثم سرى الخبر من بعضهن لبعض، حتى بلغ الجميع، وأمرتهن بالحذر والطريق في ذلك، وهو دخول مساكنهن.
وعرفت حالة سليمان وجنوده وعظمة سلطانه، واعتذرت عنهم أنهم إن حطموكم فليس عن قصد منهم ولا شعور.. فسمع سليمان، عليه الصلاة [ ص: 196 ] والسلام، قولها وفهمه فتبسم ضاحكا من قولها ؛ إعجابا منه بفصاحتها ونصحها وحسن تعبيرها، وهذا حال الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الأدب الكامل، والتعجب في موضعه، وأن لا يبلغ بهم الضحك إلا إلى التبسم، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم جل ضحكه التبسم...
وقال شاكرا لله، الذي أوصله إلى هذه الحال: رب أوزعني أي: ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي فإن النعمة على الوالدين نعمة على الولد، فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه: وأن أعمل صالحا ترضاه أي: ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه؛ لكونه موافقا لأمرك مخلصا فيه، سالما من المفسدات والمنقصات وأدخلني برحمتك التي منها الجنة في جملة عبادك الصالحين فإن الرحمة مجعولة للصالحين، على اختلاف درجاتهم ومنازلهم.. فهذا نموذج ذكـره الله من حالة سـليمان عند سـماع خطاب النملة ونداءها" [4] .
وفي هذا الصدد يقول وهبة الزحيلي:
"عدد الله في القصة نعما ثلاثا على سليمان، عليه السلام: هي تعليمه منطق الطير وإيتاؤه الخير الكثير، وتسخير الجن والإنس والطير، وفهمه خطاب [ ص: 197 ] النملة.. وأصـوات الطيور والبهائم هو منطقها، وفي مناطقها معاني التسبيح وغير ذلك، كما أخبر تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم (الإسراء:44).. وما حكاه تعالى من قول النملة: وهم لا يشعرون حسن اعتذار، وبيان عدل سليمان ورأفته وتدينه وفضله وفضل جنوده، فهم لا يحطمون نملة أو لا يدوسون على نملة فما فوقها إلا خطأ غير مقصود لا يشعرون به" [5] .
وقد أجرى المولى تبارك وتعالى سلسلة من الحوارات المتنوعة والمختلفة على مدار الحياة الدعوية للأنبياء والرسالات، لخص ونقل لنا بعضها وأهمها في كتبه السماوية وعلى ألسنة أنبيائه ومخلوقاته، وأرسى دعائمها وصفحات منها في القرآن الكريم، بحيث بدت المفاهيم الأولية والأساسية في علم المقاصد وفقه الواقع والمحل والتنزيل، نتابع معالمه الكبرى في المطلب الثاني.
[ ص: 198 ]