- رابعا: المدرسة الإسلامية في تفسير التاريخ:
[ ص: 46 ] يتصور وجيه كوثراني في كتابه المهم «تاريخ التاريخ» -كما سنوضح لاحقا-أن المنهج التاريخي الإسلامي هو تاريخانية توليفية، ويأتي في خضم البحث عن بدائل في ظل المناهج التاريخية المتعددة، وتقوم الصياغة الراهنة لمثل هذا التوجه انطلاقا من منهج سجالي مع الفلسفات التاريخية الغربية للخلوص إلى اعتماد منهج تاريخي يسـتخرج من منطوق الآيات في القرآن الكريم، ولكن هذا المنطوق يبقى مشحونا بالتأويل عبر ما تحمله مدارس الفكر التاريخي الغربي إلى العقل الإسـلامي المعاصر.. ويرى أن ما يطرحه محمد باقر الصدر في التفسير الموضوعي للقرآن، وهو يبحث عن منهج تاريخي معاصر من القرآن الكريم، يعبر عن هذا التأثير اللاواعي للعقل التاريخي الإسلامي المعاصر، وينتهي إلى أن الدعوة إلى منهج تاريخي إسلامي معاصر ستبقى دعوة تماثلية، فيها الكثير من الاندماج أو التطابق أو التداخل مع ما أنتجه الفكر التاريخي الغربي من مدارس يجري على أسـاسها تأويل معاصـر لخطاب الوحي، الذي يصلح بمرونته في كل حين وبقعة [1] .
ويقدم أحمد إبراهيم أبو شـوك نقدا لأطروحة «التفسير الإسلامي للتاريخ» ضمن مقالتين مطولتين حول الموضوع.. وكما هو معلوم فإن دعاة التفسير الإسلامي أهم رواده على الإطلاق هو عماد الدين خليل.
[ ص: 47 ] كما عرض أبو شوك إلى المشروع الثنائي الثاني، الذي يتبناه خالد «بلانكنشب» وأحمد إلياس والذي أراد أن يجعل العالم على فترتين، قديمة وحديثة، يفصل بينهما القرن السابع الميلادي، ومركز ومنطلق «بلانكنشب» يقوم على دراسة سعي الإنسان في رحلته للبحث عن التوحيد، أما أحمد إلياس فيركز أيضا على مفهوم التوحيد، الذي يتجسد في وحدة النوع الإنساني، ووحدة الحياة البشرية القائمة على مفهوم الخلافة ووسـائطه النبوية، وبذلك يرى أن تاريخ البشرية هو تاريخ واحد [2] .
وكما أسلفنا في مقدمة هذه الصفحات، ليس مرادنا هو تقديم معالجة أساسها النقد، الذي يؤسس لنظرية مجملة لأي من الأفكار الواردة في نظريات فلسفة التاريخ أو التفسير الإسلامي للتاريخ أو حتى إعادة قراءة التاريخ ضمن رؤية إسلامية تستلهم المصدرين الثابتين، وإنما نكتفي هنا بالتوثيق للتطور المجمل لهذه الأفكار، مع ملاحظة حقيقة هذه المقاربات ومدى قربها أو بعدها عن النسق المنهجي التاريخي.
- تصورات عماد الدين خليل:
يؤمن عماد الدين خليل بأن الرؤية التاريخية ترتبط بالقرآن الكريم ارتباطا وثيقا، فإذا أنت نظرت في أي سـورة في القرآن أو أية صفحة منه تطالعك هذه [ ص: 48 ] العروض والإشـارات المسـهبة أو الموجزة إلى مواقف تاريخية، وهي، كما يرى، لا ريب تشكل بمجموعها نسقا رائعا ومتكاملا للتفسير الإسلامي للتاريخ، فكتاب الله دائما يدعو المتأملين والدارسين إلى الخروج، عقب مطالعتهم التاريخية، بنتيجة نهائية عن مصير الحركة البشرية في الزمان والمكان، وأثر الإنسان والقوى الكونية في أمدائها القريبة والبعيدة [3] .
ويمكننا أن نجمل أبرز الأفكار الواردة في نظرية خليل ضمن النقاط التالية:
1- يتضمن القرآن على مساحة تاريخية واسعة، فالآيات القرآنية تشكل بصورة ما وقائع تاريخية وضعها المفسرون ضمن باب أسباب النزول.
2- تشكل العديد من سور القرآن وآياته البينات نتائج لرؤية تاريخية عميقة بنيت حججها في الوعيد والنذير على وقائع الأمم ضمن المسيرة البشرية.
3- إن هدف العروض التاريخية والقصص القرآني لغاية كبرى وهدف عظيم هو توجـيه الإنسـان نحو صـلاحه وهدايته، ليتبين الطريـق الحق.. فالتاريخ هنا يقودك إلى المستقبل، ويريك ما كان عليه الأولون لتعلم موطئ قدمك وما أنت قد تكون مقبلا عليه، فهي معالجة تاريخية في مقام الأدلة المادية، وهي تنبؤ بما سيحدث.
[ ص: 49 ] 4- يقدم القرآن أصول منهج مستفيض في التعاطي مع التاريخ البشري واستخدام المادة التاريخية للوصول إلى قوانين وسنن ثابتة تحكم الظواهر الاجتماعية التاريخية.
5- يقدم القرآن الكريم منهجا جديدا في فهم التاريخ باعتباره ميدانا للدراسة والاختبار، تستخلص منه القيم والقوانين الراصدة لحركة الحاضر والمستقبل.
6- يتيح المنهج الجديد، الذي أبرزه القرآن، لدارسي التاريخ استخدام العلوم المعاصرة، نحو علم الاجتماع، والآثار، والتاريخ، ووسائلها لتفسير قصص القرآن وجوانبه التاريخية وإشاراته الزمنية.
7- إن التفسير القرآني للواقعة التاريخية يختلف عنه في الرؤية الوضعية، فالتفسير القرآني ينبثق عن رؤية الله سبحانه وتعالى التي تحيط بالوقائع التاريخية بأبعادها الزمنية الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وتستصحب البعد الرابع وهو الفطرة الإنسانية، التي لا يعلمها إلا هو.
8- التفسير القرآني يضع خطوطا عامة وأساسية لحركة التاريخ، فهي مبادئ كبرى يسميها (سننا).
9- التاريخ في القرآن الكريم يمثل وحدة زمنية، وهي حيوية ومتصلة، ذات حركة واحدة، تبدأ يوم خلق الله السماوات والأرض وتتجه نحو يوم الحساب [4] .
[ ص: 50 ] وفي مواضع أخرى، في عرضه لمقاربته، يرى عماد الدين خليل أن علم التاريخ في أسـاسه يوجد المنهج الإسـلامي، حيث يستعير من مناهج المحدثين في علم الرجال والجرح والتعديل، ومتابعة الحياة التي تحرك في مساربها رواة الحديث، طرائقه في العمل، وهو يطرح - على أيدي مؤرخين كالطبري والدينوري واليعقوبي والمسعودي- رؤية عالمية للتاريخ البشري تستمد مقوماتها من المنظور الإسلامي، الذي يعاين التاريخ من خلال توالي الرسالات السماوية ذات الأصول المشتركة والهدف الواحد، وصولا إلى الإسلام خاتم الرسالات، والأمة التي حملت أمانة التكليف..
ويظن أن للتفسير الإسلامي للتاريخ خصائص تميزه عن غيره من مناهج فلسفة التاريخ، أهم هذه الخصائص: المرونة وعدم التأزم المذهبي، والواقعية، والناموسية أو اتباع السنن في إدراك الواقع، والشمولية..
وبوجـه عام فإن عماد الدين خليل يدعو في مشروعه إلى الربط المحكم بين العقيدة والتاريخ
[5] .
يرى أبو شـوك أن عماد الدين خليل من دعاة «أسـلمة التاريخ» الذين يقرون ضرورة الاستفادة من نتائج البحوث التاريخية المعاصرة وفق مرجعية مستقاة من معارف الوحي، ولذا نجده يعتبر قضية الصراع قضية محورية في فهم [ ص: 51 ] الواقعة التاريخية والمسألة الحضارية.. وقد عاب عليه - أي عماد الدين خليل- دعاة التأصيل الإسلامي للتاريخ تبني هذه الفرضية، حيث يؤمن هؤلاء أن تبني قضية الصراع الجدلي باعتبارها قانونا في فهم القضـايا التاريخية أمر يقود إلى اختـلاط الفهم، ويدفـع إلى إدخـال معـاني القـرآن الكريم في الخـلق والكـون والحيـاة.
ويرى بعض هؤلاء أن عماد الدين خليل قد طبق الصراع الجدلي بالمفهوم الهيغلي على حركة التاريخ، وتعيب عليه طائفة أخرى أنه قد ركز على القرآن وأهمل السـنة النبوية المطهرة مع أنها مصدر مهم للتفسـير، وكان هذا ما ذهب إليه عويس، حيث رأى أن محـاولة خليل تنحصـر في القرآن بحيث يبدو كأنه لا وجود للسنة [6] .
ومع ذلك، فإن أبا شوك يرى أن هذه الانتقادات ليست في موضعها، وأن أطروحة عماد الدين خليل هي أكثر الأطـروحات نضجا وموضـوعية؛ لأنها قد أفلحت في وضع إطار عام للتفسير الإسلامي للتاريخ وفق منهج بحثى يقوم على ثوابت التصور الإسلامي للإنسان والقوى الغيبية والوجود..
ويستدرك قائلا: إن تلك الرؤية ما تزال غير واضحة.. بنية المفاهيم تفتقر إلى آليات التطبيق على جزئيات الحدث التاريخي ومفردات المسألة الحضارية.
[ ص: 52 ] وقد لخـص أوجـه القـصـور في الأطـروحـة في خمـس نـقـاط أهمـها: أن الأطروحات الإسلامية الموجودة في الميدان الأكاديمي لا تزال مشغولة بالعموميات، وتركز اهتمامها على قضايا تجاوزها الزمن، مثل قضية خلق آدم، وسقوط الدارونية، والمادية الجدلية، والنظرية الحضارية عند «توينبي»؛ كما أن أكثر المحاولات تفتقر إلى العمق العلمي والنقد المعرفي، مما زهد المشـتغلين بعلم التاريخ فيها، وصـرفهم عنها؛ التنازع بين النظرة العالمية والنظرة العقدية في تأسيس منهج إسلامي لتفسير مفردات التاريخ البشري، كما أن بعض البحوث التي قدمت في هذا الجانب يغلب عليها النزوع نحو الوعظ والالتزام العقدي الصارم [7] .
- نقد تراثي التاريخ.. ومحاولات النيل من التصور الإسلامي في الفهم:
هناك العديد من الأطروحات في نقد رسالة «أسلمة التاريخ» أو التفسير الإسـلامي للتـاريخ، بعضـها مما هو واقـعـي وبعضـها دون ذلك، وبالطبـع لا يمكننا الإحـاطة هنـا في هـذه الأوراق المحـدودة بكل ما جـاء في ذلك من نقد، وقد توسعت بعض من هذه الدراسات لتتضمن نقدا للتراثيين برمتهم على اختـلاف مشـاربهم وتنـوع مدارسـهم وتبـاين أفـكارهم وتعدد منـاهجهم، وليس أصـدق من ذلك أطـروحـة محمد شـحرور، وهي تشـمل فـكرا شـبيها [ ص: 53 ] بما روج له من قبل نصر أبو زيد أو ربما قريبا منه إلى حد ما في نقد الفكر الذي يؤمن بأولية التراث اليوم.
والذي يعنينا في هذا الجانب أو هذه الأطروحة هي عنايتها بفلسفة التاريخ عند الإسلاميين.. ومختصر الفكرة أنها ترفض أن تكون القرون الإسلامية الأولى هي مصدر الإلهام للمسـلمين المعاصرين فيما يسمى بخيريـة القرون، وقد حصر تصوره ضمن اصطلاح أطلق عليه مسمى «الكينونة والسيرورة والصيرورة».. أما الكينونة فهو الإنسان في حركة التاريخ؛ والسيرورة هي حركة التاريخ؛ والصيرورة هي التطور.
وقد أنكر على التراثيين إيمانهم باستمداد النمو والازدهار مما اندثر، فلكل عصر رجاله وحركته وخصائصه، ضاربا المثل بقصة أهل الكهف، الذين عجزوا حين إفاقتهم عن التصدي لواقعهم، وزعم أن الصحوة فيما تضمن تسميته بالصحوة الإسلامية اليوم لا يمكن أن يكون ثورة في التغيير؛ لأن الثورة تتطلب ثورة في الفكر أولا، ولكنه عاب أيضا على دعاة الوضعية التاريخية لفظهم لفكرة الجزاء والحساب
[8] .
[ ص: 54 ] وفيما يتعلق بآراء محمد شـحرور فإنه من الضـروري الإشـارة كـذلك إلى أن فكرته تقوم في أساسها على رفض اتجاهات التفكير لدى علماء الشريعة الإسلامية، الفقهاء والأصوليين والمفسرين... إلى آخر هؤلاء.
فهو يظن أن المذاهب قد ابتدعت في الإسلام، وهي ليست أصلا فيه، وأن مرجعيات الدين من العلماء هي التي قادت المسلمين إلى سلسة الانعزال الحضاري والبعد عن التطور، كما أن الدولة المدنية الحديثة لا يمكن أن تقوم إلا بنزع سلطة هؤلاء.
وبطبيـعة الحال ليس هذا بجديد، فطبقة العلمانيين تدعو إلى ذات الأمر وربما أكثر من ذلك كما هو معلوم، وتقيم ذات الحجة حينما تعقد أوجه الشبه بين الكهنوتية المسيحية وبين طبقات علماء الدين الإسـلامي، إلا أن الجديد والمثير في رؤيته والذي يعنينا في هذه الدراسة هو أفكاره حول ما قدمه القرآن من نماذجيـة لإعـادة قـراءة وفهم التاريخ – وسـنقوم بشـرح ذلك في موضعه - ولعلنا لن نكترث إلا بذلك حينما نتفحص أفكاره، مهما اتفقنا معه أو اختلفنا، غير أنه من الضـروري الإشـارة إلى أن فكرة هدم التراث الديني الخاص بالعلماء المسلمين والذي تراكم عبر تاريخ الأمة أو جانب منها قد تكون محصـلته الكلية شـديدة الضرر، خبيثة المؤدى، عظيـمة التجـني في فهم التراث [9] .
[ ص: 55 ]