1- موقع خيبر وتسميتها:
كانت خيبر وما زالت منذ أقدم العصور، واحة واسعة ذات تربة خصبة معطاء، عيونها غزيرة المياه، وتربتها جيدة للغاية تصلح لزراعة الحبوب والفواكه على اختلاف أنواعها، وهي أيضا من أكبر واحات النخيل في شبه الجزيرة العربية [1] ، يفصلها عن المدينة ثمانية برد، ما يساوي مسيرة ثلاثة أيام، لمن يقصد الشام [2] . وبالقياسات الحديثة، فإن هذه المسافة تبلغ (70) ميلا [3] أي ما يعادل (112 كم).
أما تسمية المكان باسم خيبر ففيه قولان؛ يرى الأول أن الاسم جاء من اسـم الشـخص الأول الذي نزل هذا المكان، وهو من العماليق ويدعى خيبر ابن قانية بن مهلائيل [4] . أما القول الثاني فيرى أن المكان اشتق اسمه مما فيه من حصون كثيرة، فكلمة خيبر بلغة اليهود تعني الحصن [5] . [ ص: 10 ]
2- قدوم اليهود إلى خيبر:
تعددت الآراء أيضا في التوقيت الذي استوطن فيه اليهود خيبر، ومن أين جاءوا، إذ رأى بعض قدامى مؤرخينا أن يهود خيبر إنما هم الأجيال المتولدة من الحملة، التي أرسـلها موسى، عليه السـلام، قبيل وفاته إلى الحـجاز لقتال العماليق - سكان هذه المنطقة - وقد أنجزت الحمـلة مهمتها بإبادة هـؤلاء العماليـق إلا واحدا منهم، ولما كانت في طريق عودتها إلى الشام، توفي النبي موسى، عليه السـلام، وعند وصـول رجالها إلى الشـام ردهم خلفاء موسى، ولم يسـمحوا لهم بالإقامة هناك بذريعة أنهم أبقوا على أسـير واحد من العماليق لم يقتلوه، وذلك مخالف لشريعة اليهود، التي تقضي بقتل الأسرى جميعا من دون استثناء، لذلك اضطر رجال الحملة إلى العودة إلى الحجـاز، فاسـتوطن هـؤلاء يـثرب وما جاورها شمالا وشرقا، وكان يهود خيبر هم من نسل هؤلاء أيضا [6] . ويرجع تاريخ هذه الأحداث إلى عام (1200 ق.م) تقريبا [7] .
ويرى آخرون أن هؤلاء اليهود إنما هم الأجيال اللاحقة من حملة أرسـلها نبي الله داؤد، عليه السلام، إلى الحجاز، وتقع هذه الأحداث بعد وفاة موسى وقبل ولادة المسيح، عليهما السلام [8] . [ ص: 11 ]
ويرى آخرون أن هؤلاء اليهود هم من بقايا أسباط رأوبين وجاد ومنشة، الذين أجلاهم شلمانصر الخامس ملك آشور، فهاجروا إلى هذه المناطق وأقاموا فيها وشيدوا القلاع والحصون [9] .
ووقعت هذه الأحداث في حدود عام (723 ق.م) في حين ذكر الطبري أن أول قدوم لليهود إلى الحجاز كان بعد أن احتل بختنصر الشام وخرب بيت المقدس [10] .
وثم قول آخر، أشار إلى أن وجود اليهود في الحجاز، ومنها خيبر، يعود إلى مجموعة من علماء اليهود، الذين قصدوا المكان للبحث في ما أشارت إليه التوراة من صفة المكان، الذي سيظهر فيه النبي الذي بشرت به، وهكذا نزلوا في هذه الأنحاء بين تيماء ويثرب [11] .
أما الدكتـور جواد علي، وله باع طويـل في تاريـخ العرب قبل الإسـلام، ولا سيما في الجزيرة العربية، فلا يرى صحة معظم هذه الروايات والأخبار، مؤكدا أن قدوم اليهود إلى الحجاز كان عقب سيطرة الرومان على بيت المقدس في عام (70م) وما أنزلوه من خراب ودمار شامل في المكان، اضطر معه عدد كبير من اليهود إلى النزوح إلى أماكن مختلفة في العالم القديم ومنها الحجاز، التي استوطنوها بما في ذلك خيبر [12] . [ ص: 12 ]
وقد مارس يهود خيبر النشاط الزراعي بنطاق واسع في واحتهم حتى إنها عرفت بـ (ريف الحجاز) [13] . وفي عام (4هـ) وبعد حصار المسلمين لبني النضير، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، حاملين ما حملت الإبل من أموالهم إلا السـلاح، فمنهم من سـار إلى الشام ومنهم من سار إلى خيبر، فكان ممن سـار إليـها بـعض أكابـرهم ووجـوههم مثل حيي بن أخطب وسـلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق (فدانت لهم خيبر) [14] ، وغدوا زعماءها وولاة أمرها، الأمر الذي ألقى بظلاله على مستقبلها لاحقا.
3- حصون خيبر:
توزعت حصون خيبر على خمس مناطق رئيسة - ينظر الخارطة رقم 1- وضمت كل واحدة منها عدة حصون وآطام، بينها ما هو رئيس ومهم وما هو ثانوي.. وهذه المناطق هي:
أ - حصون منطقة النطاة:
ضمت هذه المنطقة عدة حصون، لم تذكر المصادر سوى أهمها وأشهرها، ولا سيما إنها شهدت وقائع قتالية متتالية في أثناء فتحها، وهي:
- حصن ناعم:
من أشهر الحصون وأهمها، امتاز بأن له عدة أسوار متعاقبة [15] ، وله بابان قويان [16] ، وبوسعه اسـتيعاب عدة آلاف من المقاتلين بسـلاحهم التقليدي، [ ص: 13 ] الذي هو السيف والرمح والنشاب والدروع الشخصية [17] ، فضلا عن أن الأراضي المحيطة بالحصن تمتاز بأنها (أرض نز) لا تصلح لعسكرة الجيوش عليها، لقرب الماء من سطح الأرض مما جعل تربتها رخوة [18] .. كما أن غابات النخيل الكثيفة تحثل مساحات واسعة من المناطق المحيطة بالحصن [19] ، توفر له حصانة دفاعية مهمة تعيق التحرك الفعال تجاهه، وتمنح مقاتلي الحصن فرصة نصب الكمائن للإيقاع بالقوى المهاجمة.
ومن ناحية أخرى فإن سكان الحصن جمعوا أكداسا من الحجارة عند أسوار الحصن لغرض استخدامها في القتال برمي المهاجمين بها من ذلك المكان المرتـفع [20] . وفي حصـن نـاعم تتمركز أمهر الجماعات المقاتلة من اليـهود وهم آل مرحب، فهم (أهل الجد والجلد) [21] . ومما امتازوا به مهارتهم الكبيرة في رمي السهام أيضا [22] . وكان من أشهر مقاتليهم - وقد قتلوا في المعارك - كل من الحارث ومرحب وأسير وياسر وعامر [23] .
- دار بني قمة:
وهي من آطام اليهود، التي جمع فيها أصحابها من الأثرياء كميات كبيرة من الغلال والثمار، ولا سيما الشعير والتمر، وهي أول ما سقط في يد المسـلمين [ ص: 14 ] بعد حصـن ناعم [24] .. ولكثرة ما فيها من ثمار وغلال قالت عنها السـيدة عائشـة، أم المؤمنين، رضي الله عنها: "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير والتمر حتى فتحت دار بني قمة" [25] .
- حصن الصعب بن معاذ:
وهو من الحصون المنيعة أيضا وخط دفاعي متميز، لذا أجلي سكانه من غير المقاتلين إلى حصون الشق والكتيبة، وتمركز فيه المقاتلون فقط [26] . وضم الحصن مخازن كبيرة احتوت كميات كبيرة من الأطعمة والشعير والتمر والسمن والعسل والزيت والودك والأعلاف، فضلا عن مواد تجارية أخرى مختلفة من أقمشة وآنية نحاسية وفخارية [27] . وتقدر القوة القتالية التي تمركزت في الحصن بخمسمائة مقاتل مدججين بالسلاح [28] .
- حصن قلعة الزبير:
يتربع الحصن على قمة جبل [29] . وهو حصن منيع لا تصله الخيل ولا الرجالة إلا بصعوبة بالغة لوعورة مسالكه [30] ، وله عدة أبراج تشرف على مسالكه وممراته تسيطر عليها وتتحكم بها [31] . وللحصن دبول (مجاري مياه تحت سطح الأرض) [ ص: 15 ] توفر له حاجته من الماء، وتمكنه من الصمود أمام أي حصار لمدة طويلة من الزمن [32] . وقد عرف مقاتلوه بأنهم الأكثر حدة ونجدة في القتال [33] .
ب - حصون منطقة الشق:
- حصن أبي:
يقع على رأس جبل في منطقة الشق، له أبواب قوية متينة، وأسواره عالية نسبيا، والمسالك المؤدية إليه وعرة هي الأخرى [34] . وتتكون أسواره من عدة جدران ومصدات [35] . كما ضم الحصن مخازن للأغذية والأعلاف والأمتعة وحظائر للحيوانات [36] ، تسـاعد سـكانه على الصـمود بوجه الحصار لأطول مدة ممكنة، كما هو الحال في معظم حصون خيبر.
- قلعة سمران:
تقع قريبا من حصن أبي وتتبع له، وتتمركز القلعة على قمة جبل سمران [37] . وتعد خط دفاع مهم لحماية حصن أبي، لحصانة موقعها وتميزه [38] . [ ص: 16 ]
- حصن النزار:
وهو الأهم بين عدد من الحصون المحيطة به في منطقة الشق [39] ، وربما كان الأمنع والأقوى في خيبر كلها [40] ، حتى أن اليهود لما راحت تتهاوى حصونهم نقلوا نساءهم وذراريهم إليه، بما فيهم زعيمهم كنانة بن الربيع، الذي نقل زوجته صفية إليه، إذ كان يرى أن (حصن النزار أحصن ما هنالك) [41] ، وعرف مقاتلوه أنهم أشد أهل الشق قتالا [42] .
ج- حصون منطقة الكتيبة:
- حصن القموص:
يقع في منطقة وادي الكتيبة، الأغنى في خيبر كلها [43] . ويتربع الحصن على قمة مرتفعة على ظهر الحرة يعرف بجبل القموص، فعرف الحصـن باسـمه [44] . وهو أقوى حصـون هذا الـوادي وأمنعها [45] ، ويمكن عده قلب خيـبر النابـض، إذ يقيم فيه قادة اليهود وزعماؤهم رهط حيي بن أخطب [46] . والمسالك والممرات [ ص: 17 ] المؤديـة إليـه ملتويـة ومعقدة وضيقة وسـط سـلسلة من التعرجـات الجبـلية ذات الانحدار الشديد [47] . وللحصن أبراج دفاعية عدة تشرف على الممرات المؤدية إليه وتتحكم بها [48] ، فضلا عن خطوط دفاعية عدة تتمثل بالصخور الصلبة والبساتين الكثيفة من أشجار النخيل التي تعيق تقدم المقاتلين نحوه [49] .
د - حصون منطقة الوطيح:
ومن أبرزها حصن الوطيح، الذي يقع في وادي خاص أو خلص - بحسب اختلاف المصادر - مما يلي الكتيبة [50] . وموقعه على جبل الأهبل، تحيط به الآطام والمزارع، التي توفر له حماية مهمة [51] . والحصن من أعظم حصون اليهود وأمنعها في خيبر بعامة [52] .
هـ - حصون منطقة السلالم:
ومن أهمها حصن السلالم نفسه، شديد التحصين، حتى عد من أحرز حصون خيبر [53] .. ووصف بأنه كان من أعظم حصونها وأكثرها أموالا [54] ، وكان مدججا بالسلاح، حتى أن المسلمين غنموا منه كميات كبيرة من مختلف أنواع الأسلحة [55] . [ ص: 18 ]
وفي الإطار العام فقد وصـف دوثي - الذي مكث في خيبر بضعة أشهر بين عامي (1877-1878م) الواحة الخيبرية بأنها عبارة عن مجموعة من الوديان الفسيحة كثيرة المياه، مجتمعة على هيئة جريدة النخل على حافة الحرة، وتسير جميعا بحيث تلتئم في واد كبير واحد، وهذه الوديان أغوار في منطقة الحرة، تحتها طبقة من الحجر الرملي، والمنطقة بعامة تقع على ارتفاع (2800 قدم) فوق مستوى سطح البحر [56] ، وعرفت بالحمى حتى قال فيها الشاعر:
كأن به إذ جئته خيبرية يعود عليه وردها وملالها
وقدم أعرابي خيبر بعياله فقال:
قلت لحمى خيبر استعدي خذي عيالي واجهدي وجدي
وباكري بصالب وورد أعانك الله على ذا الجند
فأصابته الحمى ومات وبقي عياله [57] .. والناس يقولون: حمى خيبر، وطواعين الشام، ودماميل الجزيرة، وجرب الزنج، وطحال البحرين [58] . فأجواء خيبر (وبئة وخيمة) [59] ، متسببة في انتشار مرض الملاريا [60] .. ولما تقدم المسلمون نحو خيبر وعسكروا قرب حصونها نالت منهم الحمى حتى شكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فطلب منهم أن يصبوا الماء البارد على أنفسهم، فجاء الأمر بنتائج إيجابية [61] . [ ص: 19 ]
- خيبر في عيون المعاصرين:
ابتـداء، كيف كان الخيـبريون يرون حالهم في خيبر من الناحية الحربية؟
فبعد قدوم الأخبار بما حصـل ليهود بني قريظة في المدينة، اجتمع وجوه يهود خيبر، وقد انتابهم القلق من تلك الأخبار، وخرجوا بنتيجة مفادها: "حصوننا هذه ليست مثل ما هنالك، ومحمد لا يسير إلينا أبدا لما يعرف" [62] ، معتدين بما كانت عليه حصونهم من قوة ومنعة، وبما كانوا يجدونه في أنفسهم من بأس في القتال، ولكنني أتحسس بين تلك الكلمات والحروف قلقا من نوع ما، من باب توقع أسوأ الاحتمالات، التي قد تقع فعلا بغض النظر عن أية اعتبارات أو موازنات.
وبعد عامين، اجتمع هؤلاء مرة أخرى، بعدما تسربت الأنباء عن احتمالات مسير المسلمين إليهم، وخرجوا بالنتيجة نفسها: "إن حصوننا هذه ليست مثل تلك، هذه حصون منيعة فى ذرى الجبال" [63] . ومن قبيل التحوط كانوا يخرجون مقاتليهم في كل يوم بما يشبه استعراضا للقوة، هدفه رفع معنويات سكان خيبر وتحقيق قدر من التماسك الداخلي بما يجعل الجبهة الداخلية أكثر قدرة على الصمود إذا ما هجم المسلمون عليهم، ومن أجل أن تتسرب هذه الأخبار أيضا إلى المسلمين، ومن ثم قد يحسبوا لذلك حسابهم فيعدلوا عن غزو خيبر، وكانوا يرددون: "محمد يغزونا؟ هيهات! هيهات!؟" [64] . وهكذا اعتقدوا أن حصونهم [ ص: 20 ] مانعتهم، وأن المسلمين إن جربوا حظهم في خيبر فلن ينوبهم سوى الفشل ليعودوا خائبين من حيث أتوا.
ومثل هذه التصورات داعبت مخيلة بقية اليهود في الحجاز، فبعد أن بدأت تتضح نيات المسلمين في التوجه إلى خيبر، اعتقد هؤلاء - أي يهود الحجاز - أن المسلمين ستحل بهم نكبة كبيرة يفقدوا معها كثيرا من مزاياهم الاقتصادية، لذا عمد كل يهودي في المدينة إلى مطالبة من اقترض منه مالا من المسلمين بتسديد ما بذمته [65] ، خوفا من ضياع ذلك، إما بأن يقتل هؤلاء في المعركة المرتقبة، فتضيع أموالهم التي أقرضوها لهم، أو أن تحل بهم نكبة وهزيمة لا يعودوا بعدها قادرين على تسديد ديونهم. ومن ناحية أخرى تمنوا أن يكون في سلوكهم هذا ما يعيق استعدادات المسلمين ويعرقلها وبما يمنع من توجههم نحو خيبر.
وكان هؤلاء يسـتخفون بالمسـلمين لعزمهم التـوجه إلى خيبر، فكانوا يقولون: "ما أمنع - والله - خيبر منكم! لو رأيتم خيبر وحصـونها ورجـالها لرجعتم قبل أن تصـلوا إليهـم، حصـون شـامخات في ذرى الجبال، والماء فيها واتن - أي لا ينقطع-.. إن بخيبر لألف دارع، ما كانت أسد وغطفان يمتنعون من العرب قاطبة إلا بهم، فأنتم تطيقون خيبر؟!" [66] .
كان أبـو الشـحم اليـهودي أحـد هـؤلاء المرجـفين، فقال لعبـد الله ابن أبي حدرد الأسلمي وهو يطالبه بما في ذمته من دين: "تحسب أن قتال خيبر [ ص: 21 ] مثل ما تلقونه من الأعراب؟ فيها - والتوراة- عشرة آلاف مقاتل" [67] . ولا أظن هذا العدد من المقاتلين صحيحا، وإن كان ورد في عدد من الروايات، وما أشيع إلا من أجل إخافة المسلمين وتثبيط هممهم عن القتال.
ولما شـد بنو النضـير رحـالهم إلى خيبر بعد إجـلائهم من المدينة على إثر تآمرهم على حيـاة النبي صلى الله عليه وسلم ، تكلم فيهم - بحسرة بالغة - زيد بن الرفاعة ابن التابوت فقال لعبد الله بن أبي بن سلول، وقد تملكته الوحشة لفقدهم: "ولكنهم يخرجون إلى عز وثروة من حلفائهم، وإلى حصون منيعة، شامخة، في رءوس الجبال ليست كما هاهنا" [68] . ولما جاء وفد المسلمين يفاوض أهل فدك على الاستسلام، ملمحا إلى ما سيلقاه أهل خيبر، كان رد هؤلاء: "بالنطاة عامر، وياسر، وأسير، والحارث، وسيد اليهود مرحب، ما نرى محمدا يقرب حراهم.. إن بها عشرة آلاف مقاتل" [69] . ومما قاله بنو سعد في فدك، معربين عن ثقتهم العالية بخيبر وبمن فيها: "إن بها رجالا وحصونا منيعة، وماء واتنا، لا دنا منهم محمد أبدا، وما أحراهم أن يغزوه في عقر داره"[70] .
وفي سياق مواز، نظر حلفاء اليهود من العرب بالطريقة نفسها إلى ما كانت عليه خيبر من قوة ومتانة وعدم قدرة على اختراقها. فقال عيينة بن حصن سيد [ ص: 22 ] غطفان، الذي اتفق معه يهود خيبر على التعاون بوجه زحف المسلمين نحو حصونهم، قال لسعد بن عبادة رضي الله عنه : "..وإنا لنعلم ما لك ولمن معك بما هاهنا طاقة، هؤلاء قوم أهل حصون منيعة، ورجال عددهم كثير، وسلاح. إن أقمت هلكت ومن معك، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح. ولا والله، ما هؤلاء كقريش... وهؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملهم" [71] .
وقال الحارث بن عوف، زعيم بني مرة، معبرا عن ثقته الكبيرة بيهود خيبر وقدراتهم القتالية: "إنهم أهل حصون منيعة... والله إن كانت العرب لتلجأ إليهم فيمتنعون بهم... إنهم أعز يهود الحجاز، يقرون لهم بالشجاعة والسخاء" [72] .
وأفاد رجل من أشجع، وكان يهود خيبر قد وضعوه في طريق تقدم المسلمين يتحسس لهم أخبارهم، فقبض عليه، وعند التحقيق معه قال: "فيها عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل الحصون التي لا ترام، وسلاح وطعام كثير، لو حصروا لسنين لكفاهم، وماء واتن يشربون في حصونهم، ما أرى لأحد بهم طاقة" [73] .
وأخيرا ولما جاءت الأخبار إلى مكة بمسير المسلمين إلى خيبر قالوا بشأنها: "أهل المنعة والعدة في الرجال" [74] ، وليس للمسلمين بهم طاقة أو قدرة على اقتحام تلك القلاع والحصون.
[ ص: 23 ] لقد كان إنشاء الحصون وتقويتها وتسليحها وإعدادها وشحنها بالمقاتلين والقتال من على أبراجها ومن فوق أسوارها ومن وراء الجدران هو أساس العقيدة القتالية وخطة الحرب عند يهود خيبر، وهو الأسـلوب القتالي المفضل عندهم؛ لأنه غالبا ما يفي بأغراض القتال وأهـدافه دفاعا عن واحتهم، إلا أنهم يلجأون في بعض الأحيان إلى الإصحار بالخروج من حصونهم للهجوم إذا ما اضطروا إلى ذلك، كما كانوا في حـالات الهجوم يتخذون من الحصـون قاعدة لانطلاقهم، ثم ملجأ يحتمون به إذا لم يحقق الهجوم أهدافه وولوا مدبرين [75] . وهذا ما تجلى تفصيليا في وقائع معركة فتح حصون خيبر.
كما امتاز يهود خيبر بوحدتهم وتماسكهم، على العكس من قبائل اليهود الأخرى، ولا سـيما تلك التي كانت تقيم في المديـنة، الذين اقتتلوا فيما بينهم في بعض المراحل، ولم يسند بعضهم بعضا في مواجهتهم مع المسلمين [76] . وفضلا عن ذلك فقد عرف هؤلاء اليهود بشجاعتهم قياسا إلى بقية يهود شبه الجزيرة العربية، فمع أن يهود المدينة كانوا أكثر عددا وأوسع ثراء، إلا أنهم جبنوا عن مقاتلة المسلمين في أية مواجهة فاصلة، مؤثرين الاستسلام والرحيل على خوض مواجهة حاسمة مع المسلمين [77] . [ ص: 24 ]
هكذا إذن هي خيبر، من حيث حصونها ومزايا مقاتليها، قوة مميزة في العدد والعدة والعتاد والتحصينات، وقدرات قتالية وكفاءة مشهود لها في أوساط العرب واليهود على السواء، الأمر الذي جعل من معركة فتح حصون خيبر معركة مختلفة نوعيا في طبيعتها ووقائعها، فهي أطول معركة خاضها المسلمون مع عدو من أعدائهم، وهي أول معركة للمسلمين لاقتحام الحصون والقلاع الجبلية، مما يشير إلى طبيعة الجهد والبسالة والصبر والصمود، الذي بذلوه من أجل تحقيق الفوز على العدو والانتصار عليه.
وهنا، لا بد من أن نسجل أن المسلمين لم ينتصروا على يهود خيبر عسكريا فحسب، بل انتصروا عليهم حضاريا أيضا، بما عكسته المعركة من قيم حضارية مثلت السمو الحضاري للمسلمين حتى وهم يقاتلون عدوهم. [ ص: 25 ]