2- المسير نحو خيبر:
لما رجـع النبي صلى الله عليه وسلم من الحـديـبية، في أواخـر ذي الحـجة من عام (6هـ) ، أقام حتى أواخر صفر أو غرة ربيع الأول من عام (7هـ) ، إذ خرج إلى خيبر [1] . وقـد أعـلن النـفير للقتـال، الذي تحشـد له المسـلمون ممن شـهد الحديبـيـة، [ ص: 29 ] وأراد المخلفون من الأعراب - الذين تخلفوا عن المشاركة في الحديبية - الالتحاق بجيش النبي صلى الله عليه وسلم طمعا في خـيرات خيبر، فلم يأذن لهم النبي إلا إذا كانوا راغبين في الجهاد فقط، وأمر منـاديا فنادى: "لا يخرجن معنا إلا راغب في الجهاد، فأما الغنيمة فلا" [2] ، فأسقط في يد هؤلاء، فقعدوا مرة أخرى ولم يشاركوا في الحملة على خيبر، واحتشد للقتال (1600) مقاتل، بينهم (200) فارس [3] ، غالبيتهم العظمى ممن اشتركوا في الحديبية.
اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم الأدلاء ليسلكوا به أقصر الطرق إلى خيبر [4] ، إذ بين المدينة وخيبر طريقان، إحداهما (قاصفة) أي تؤدي إلى الهدف مباشرة، والثانية تعدل من حصن بني عثمان ذات اليمين [5] . وكانت الأخبار قد تسربت إلى يهود خيبر بأن المسلمين يستعدون للهجوم على حصونهم، فقد بعث يهود المدينة إلى خيبر من يخبر أهلها بنية المسلمين على مهاجمتهم، ومهونين من شأنهم - أي المسلمين - وقدراتهم [6] . كما أن بعض التجار من الأعراب أبلغ يهود خيبر بما شاهده من استعدادات المسلمين القتالية المتجهة صوب خيبر [7] ، علاوة على إرسال رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول رسالة مستعجلة إلى يهود خيبر حذرهم فيها من [ ص: 30 ] مسير المسلمين إليهم، وشجعهم على الصمود، وحثهم على القتال والتصدي لهم [8] .. وعليه، عمد هـؤلاء إلى القيـام بحركات اسـتعراضية لها أهـداف عـدة، كما أسلفنا، إذ كانوا يخرجون كل صباح بعددهم وعتادهم استعدادا للمواجهة المرتقبة [9] ، كما عمدوا إلى التحالف مع غطفان، بأن خرج إليهم كنانة بن أبي الحقيق ودعاهم إلى نصرة يهود خيبر مقابل نصف حاصل تمر خيبر لسنة [10] .
وقضت خطة النبي صلى الله عليه وسلم التقدم بسرعة نحو خيبر تحقيقا لمبدأ المباغتة والمفاجأة، فالمسـافة بين الطرفين يلزمها خمسـة أيام بالطريق التقليدية، عليه كان لا بد من قطع المسافة في أقل من ذلك، وفعلا بلغ المسلمون حصون خيبر قبل فجر اليوم الرابع [11] . ويبدو أن اليهود ظنوا فعلا أن وصولهم لن يتحقق قبل مرور خمسة أيام - ينظر الخارطة رقم 2 - وهكذا كان وصولهم بهذه المدة القياسية قد حقق عنصر المفاجأة تماما. كما قضت الخطة أيضا أن لا يأتي المسلمون خيبر من جنوبها، بل من جهة الشمال للحيلولـة دون التـحام غطفان بـحـلفائهم من يهود خيبر [12] .
وعندما توجه الغطفانيون لنجدة حلفائهم، لما سمعوا باقتراب المسلمين من خيبر، حتى إذا اقتربوا من خيبر "سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا ظنوا أن [ ص: 31 ] القوم - أي المسلمين- قد خالفوا إليهم"، فرجعوا على أعقابهم، وخلوا بين المسلمين واليهود [13] .. وربما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوكل إلى فرقة من جيشه مهمة مناوشة ديار غطفان حتى ينصرفوا لنجدة أهلهم ويتركوا حلفاءهم ويخلوا بينهم وبين المسلمين [14] ، ولكي يبدو الأمر مسوغا أشاع جيش الغطفانيين أنهم سمعوا ذلك الصوت، الذي أقلقهم على أهلهم فرجعوا مدبرين.
وكما تقدم، فإن يهود خيبر، ومن باب الاستعداد، كانوا يخرجون رجالهم بسلاحهم مستعرضين، ويبدو أنهم فعلوا ذلك لعدة أيام، حتى ملوا أو اعتقدوا أنه لم يحن بعد موعد اقتراب المسلمين من حصونهم، فلم يخرجوا ذات صباح للاستعراض، وهنا حقق المسلمون عنصر المفاجأة، إذ وصلوا في الوقت غير المتوقع وعسكروا قبالة أبواب حصون خيبر، ولم يخرج مقاتلو اليهود فجر ذلك اليوم في استعراضهم، لذلك فإنهم لما خرجوا إلى عملهم صباحا تفاجأوا بعسكر المسلمين أمامهم، فعادوا مسرعين إلى حصونهم وأوصدوا الأبواب خلفهم وهم يصيحون "محمد والخميس"، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الله أكبر، الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " [15] . [ ص: 32 ]