القسم الثاني
القيم الحضارية في معركة فتح خيبر
أولا: طبيعة القتال وماهيته
- آراء.. وآراء أخرى:
تتابعت كثير من العوامل والظروف لتسهم في تشكيل صورة نمطية تقليدية عن الإسلام والمسلمين والنبي صلى الله عليه وسلم ترسخت في المخيال الأوربي، وما زال كثير منها مستقرا في هذا المخيال، ولعل الحروب المستمرة التي دارت بين المسلمين والغرب على شكل موجات متعاقبة كانت السبب الرئيس في بلورة هذا الموقف السلبي.. إنها حروب أسفرت عن تقليص عدة إمبراطوريات نصرانية، وترافق معها وأعقبها تحول أعداد كبيرة من النصارى إلى الإسلام، ففقدت الكنيسة كثيرا من رعاياها، ومن ثم كان لابد لها من أن تسهم - بشكل أو بآخر - في إعادة التوازن إلى كيانها، واتخذ ذلك مسارين رئيسين؛ المسار الفكري الدعائي، ثم المسار الحربي، بتحريض ملوك أوربا وجماهيرها لشن سلسلة من (الحروب الصليبية) لتترسخ بذلك حالة التقاطع والتضاد بين المسلمين والغرب.
وهكذا شهد الفكر الأوربي ركاما كبيرا من نتاج أدبي وديني وسـياسي أقل ما يقال عنه: إنه غير منصف، بني على التعصب ونقص المعلومات والكذب [ ص: 39 ] و (الدوغمائية).. أسفر عن خرافات وأساطير وأكاذيب ما أنزل بها من سلطان، من ذلك ما أشاعته الكنيسة في العصور الوسطى بشأن النبي صلى الله عليه وسلم من "أنه ساحر كبير، استطاع عن طريق السحر والخداع تحطيم الكنيسة في أفريقيا وفي الشرق، وأنه سمح بالدعارة والفسق لكسب مزيد من الأتباع" [1] .
وإذا كانت لرجال الدين حماستهم الخاصة التي تدفعهم إلى رسم هذه التصورات، فإنه من المعيب حقا أن يسهم باحثون وأكاديميون في رسم هذه التصورات، الذين ينبغي أن تكون الموضوعية والتجرد عدتهم وعتادهم في البحث العلمي، فسقط كثير من هؤلاء في الكذب والخداع والغش ومجانبة الحقيقة، فقال "آرنست رينان": "إن سيف محمد والقرآن هم أكثر أعداء الحضارة والحرية" [2] .
وقال "المنيستور كولي": "في القرن السابع للميلاد برز في الشرق عدو جديد هو الإسلام، الذي أسس على القوة، وقام على أشد أنواع التعصب، لقد وضع محمد السـيف في أيدي الذين اتبعوه، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق، ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب، ووعد الذين يهلكون في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذات" [3] .
وأشـار "فلهاوزن"، كما كثيرون غيره، إلى أن حركة الفتوحات الإسلامية ما هي إلا وسيلة لتصحيح مسار الحياة الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية ومعالجة لأوضـاعها الاقتصـادية "ولم يكن الجهاد لنشر الدين أكثر من ذريعة للحرب، [ ص: 40 ] كما لم تكن دعوة أعداء الله إلى الدخول في الإسلام قبل محاربتهم إلا مسألة شكلية" [4] .
ويرى "فان فلوتن" أن حروب الإسلام مرتبطة بطبيعة الحرب وتكوينها أكثر من ارتباطها بالإسلام والدعوة إليه [5] . ومثل هذا التناغم في الأفكار والتصورات الذي استغرق ما يقرب من ألف سنة، أكد أن الأمر ينم عن إجراءات ممنهجة تبنتها جهات ومؤسسات وأفراد بنطاق واسع، ولم تكن ردود فعل آلية وحسب.
إلا أن الحق لا يعدم من ينصره، حتى من بين أبناء الصـف المعادي، فنشـير إلى بعض الشهادات بحق الإسلام والمسـلمين:
يقول "غوستاف لوبون": "ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب" [6] .. ويقول "ديورانت": "إن المسلمين كانوا رجالا أكمل من المسيحيين، فقد كانوا أحفظ للعهد منهم، وأكثر منهم رحمة للمغلوبين، قلما ارتكبوا في تاريخهم من الوحشية ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت المقدس في عام 1099م" [7] .
ويقول "جون ديفنبورت": "من المؤكد أن محمدا شن حروبا، ولكنها كانت تختلف في جـوهرها عن حروب موسى، فلم تكن حروبـه من أجـل الإبـادة؛ لأن الأهداف الجديرة بالثناء بالنسبة لمحمد كانت توحيد العرب في إمبراطورية [ ص: 41 ] واحدة وإبعادهم عن عبادة الأوثان وإرشـادهم إلى عبـادة الله الواحـد الأحـد خـالـق كل شيء" [8] .
وحديثا قالت "كارين آرمسـترونج".. "... لقب الإسلام بدين السيف كعقيدة تختلف عن الروحانية الحقة وكرست للعنف وعدم التسامح. وقد طاردت تلك الصورة الإسلام في الغرب المسيحي منذ العصور الوسطى، رغم أن المسيحيين كانوا يشنون حروبهم المقدسة الخاصة في الشرق الأوسط في ذلك الوقت، وفي يومنا هذا تلهو الكتب وبرامج التلفزيون بإبراز عناوين مثل: (حنق الإسلام) و(سيف الإسلام) و(الحنق المقدس) و(الرعب المقدس) لكن هذا تشويه للحقيقة" [9] ، وكأني بها تصـرخ في وجوه قومها: كفاكم كذبا وتزويرا وتشـويها للحقـائق، بل إنكم تعرفون الحـق وتنـكرونه، وتعرفون ما كانت عليه حروبنا وما هي عليه الآن، فلا تقلبوا الحقائق وتزوروها.
- حروب الآخرين ضد المسلمين:
لقد شن أهل الديانات السماوية الأخرى والوثنيون، قديما وحديثا، حروبا شرسـة، خاضوا فيها قتالا وحشيا انتقاميا، مع أعدائهم بشكل عام ومع المسلمين بشـكل خاص، كان دأبهم فيها إبادة العدو والقضـاء عليه قضـاء مبرما؛ وكثيرا ما كانوا يستندون في ذلك إلى نصوص دينية محرفة. [ ص: 42 ]
وتشكل حروب الوثنين، بخاصة، الأنموذج التاريخي، الذي تتجسد فيه هذه الوحشية والقسوة.. ويعتبر دخول "هولاكو" بغداد، التي دخلها بعد أن استسلمت، العلامة الفارقة في هذا الأنموذج.. فعندما خرج الخليفة ومعه سبعمائة من القضاة والفقهاء والصوفية ووجوه الدولة وأعيانها، مستسلما لإبرام الصلح مع هولاكو، عزل الجند المغول الخليفة ومعه سبعة عشر شخصا، ثم قتلوا بقية الوفد عن آخرهم [10] ، ثم عمدوا بعد أيام إلى قتل الخليفة وأسرته وهو الذي استسلم لهم، قتل رفسا بالأقدام أو خنقا أو تغريقا بالماء [11] .. وأكاد أجزم أنها المرة الوحيدة في التاريخ التي يقتل فيها رئيس دولة أو ملكها وقد استسلم، وهو أمر أبعد ما يكون عن القيم الأخلاقية.. ومثل ذلك يقال عن الوفد الذي جاء لإعلان الاستسلام فقتل ببشاعة، وهو أمر ينافي كل القيم والأعراف والأخلاق.
ولما دخل المغول بغداد استباحوها أربعين يوما فقتلوا كل من طالته سيوفهم من دون أدنى تورع، نساء وأطفالا وشيوخا وشبابا، في الطرقات والبيوت والجوامع، وهربت أعداد كبيرة من الناس إلى الخانات مجتمعين فيها مطمئنين إلى كثرتهم واجتماعهم، وغلقوا على أنفسهم أبوابها القوية، إلا أن المغول اقتحموا عليهم الخانات، فكان الناس يهربون إلى السطوح، فتبعهم المغول وقتلوهم عن آخرهم، حتى جرت الميازيب بالدماء في الأزقة.. وأشار ابن كثير إلى أن عدد من قتل من الناس في بغداد وحدها، بلغ ثمانمائة ألف قتيل، وقيل: مليون، وقيل: مليونين [12] . [ ص: 43 ]
وإذا ما قدرنا أن هناك مبالغة كبيرة في الأمر فإن العدد لا يقل عن مائة ألف قتيل من أطفال ونساء وشيوخ وشبان. وقد تركت جثث القتلى تلالا في شوارع بغداد، فسقطت عليها الأمطار، حتى تعفنت وتحللت، متسببة بوباء شديد [13] .
واليوم، يقوم البوذيون، الذين يقال: إن ديانتهم مسالمة، بممارسة أشنع أنواع القتل وأبشعها بحق أطفال ونساء وشيوخ من مسلمي بورما، تصل حد حرق البشر وهم أحياء، من دون أن يحرك المجتمع الدولي ساكنا سوى الاستنكار والتنديد، غير أن المجازر ماضية في طريقها بحق بهؤلاء وقد حصدت آلافا من الأبرياء لا لشيء إلا لأنهم مسلمون.
إن حروب أهل الديانـات الأخرى والوثنيين هي حروب على الحرث والنسـل، حروب على الحيـاة، بكل أبـعادها ومعانيـها، ليس فيها احترام لامرأة أو طفل أو شيخ مسن.. والبهائم والسوائم ليست محترمة أيضا، كما هو الطفل والمرأة، ولا معنى لكلمة أسير، فكل شيء يجب أن يقتل ويحرق ويدمر.
- طبيعة معارك النبي صلى الله عليه وسلم :
إن ما يمكن الخروج به من حقائق حروب غير المسلمين، من أتباع الديانات الأخرى والوثنيين، يمكن إجماله في النقاط الآتية:
- كان الهدف العام لهذه الحروب إنزال أكبر عدد ممكن من القتلى في صفوف العدو بما يصل أحيانا إلى حد الرغبة في الإبادة، وبطريقة هستيرية جنونية.
- اتسـمت هذه الحـروب بـأنها لم تـضـع أي اعتبـار للأبـريـاء من نسـاء أو أطفال أو شيوخ أو علماء دين، بل كان كل هؤلاء هدفا سهلا للقتل. [ ص: 44 ]
- في الغالب لم يكن يحسب أي حساب للأسرى، فكانوا هم أيضا هدفا للقتل أو التعذيب الوحشي المهين لكرامة الإنسان؛ ومورست أقذر الأساليب بحق السبايا في الأسر.
- لم يسلم من التدمير كثير من مظاهر الحضارة الإنسانية أو جوانب الحياة البيئية المختلفة.
- لم تحمل هذه الحروب هدفا أو رسالة أو غاية نبيلة، فكثير منها لم يبشر أصحابها بدينهم، ولم يكن هدفهم من القتال التمهيد أو التوطئة لنشر دينهم.. والحال بالنسبة للوثنيين كان أسوأ من ذلك أيضا، فهم أصلا منحرفون فكريا وعقديا.. غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن قسطنطين مارس في حروبه ضد أعدائه أبشع أنواع الاضطهاد وأشنعها للتمهيد لانتشار النصرانية.. كما مارست محاكم التفتيش في أسبانيا أقذر الأساليب وأكثرها وحشية من أجل إجبار المسلمين على التخلي عن دينهم والتحول إلى النصرانية.
وعلى وفق هذه الاعتبارات سنتحدث عن طبيعة قتال المسلمين في معركة خيبر - أنموذجا - لبيان الاختلاف الجوهري العميق بين نمطي حروب المسلمين وحروب غير المسلمين، وستتبين هذه الاختلافات والتباينات في هذا المبحث والمباحث اللاحقة، كاشفة عن حقيقة القيم السامية، التي تمثلها المسلمون حتى في أثناء حروبهم.
لقد استندت معارك المسلمين إلى طبيعة الرسالة، التي انطلقوا منها وحملوها إلى العالم، فهي أولا معارك تمهد لنشر الإسلام وتوطئ له، بوصفه أسمى ما يجب أن تنبني عليه حياة البشر بالتشريع الذي أوحى به الله سبحانه وتعالى، ولكن [ ص: 45 ] يجب أن لا يفهم من ذلك أن المسلمين وضعوا سيوفهم على رقاب الناس ليعتنقوا الإسلام، بل أبقوا لهم حرية الاختيار من دون ضغط أو إكراه، وهو ما أكده "توماس آرنولد" في مواضع عديدة من كتابه "الدعوة إلى الإسلام".
أما شواهد الدعوة إلى الإسلام في معركة خيبر فتتمثل بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لما أعطاه الراية ووجهه لقيادة القتال، قال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم" [14] . ويؤخذ من الحديث أن تألف الكافر أولى من المبادرة إلى قتله [15] . وكان هذا ديدن المسلمين في كل معاركهم، فليس القتل هدفهم الذي يسعون إليه، فإن في إجابتهم إلى الإسلام عصمة لدمائهم وأموالهم إلا بحقها "وحسابهم على الله" [16] ، وهو ما يعني أن إسلامهم حتى وإن كان ظاهرا - من دون تحري النيات- يحقق لهم هذه العصمة.
وهنـا - أي في معركـة خيبر - تحديـدا لا بـد من الإشـارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم خيبر، لم يأت بهـدف دعوتهم إلى الإسـلام، بل من أجل معاقبة اليهود لما كانوا يحيـكونه من مؤامرات ودسـائس، كما تـقدم ذكره، فقد دأب يـهود بني النضير الذي نزلوا خيبر بعد إجلائهم من المدينة، دأبوا على عاداتهم القديمة في الكيد للمسلمين. ومع هذا لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بأسا من دعوتهم إلى الإسلام، [ ص: 46 ] فإن أجابوا فإن ذلك يجب عنهم ما فعلوه سابقا ولا يؤاخذون به، بوصف أن الإسلام يجب ما قبله، إلا أنهم أبوا وامتنعوا.
وتجلى هذا الجانب الدعوي مرة أخرى عند الانصـراف من معركة خيبر والعـودة إلى المديـنة، فعرج النـبي صلى الله عليه وسلم على يهود (وادي القرى) وحاصـرهم، وكان القتال يبدأ بمبارزات فردية حتى قتل من اليهود أحد عشر رجلا "كلما قتل رجل دعا من بقي إلى الإسـلام. ولقد كانت الصـلاة تحضر يومئذ فيصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم يعود فيدعوهم إلى الله ورسوله" [17] .
فأي حرص هذا على حقن الدماء وهداية القوم إلى الدين الحق، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، إنها حرب ذات رسالة سامية، لا حروب من أجل السلب والنهب والإبادة.
وربما اعترض معترض: ما بال المسـلمين يقاتلون من أجل نشـر دينهم؟ لماذا لا يدعون الناس وشأنهم؟ واليوم كم من الحروب شنت أمريكا على العالم من أجل نشر (دين) الديمقراطية؟! وأمريكا تصرح بذلك من دون مواربة، فهي تسعى إلى القضاء على (النظم الدكتاتورية) لتحل محلها (النظم الديمقراطية) ، فلم لم تدع الشـعوب وشأنها من دون تدخل عسكري سافر، وهي في الحقيقة لم تصـنع أكثر من أنها أفسدت على الناس حياتهم، فمن منحها المشروعية للقيام بذلك؟ ومن منحها حق نشر الديمقراطية؟ وكذلك فعلت الشيوعية، فكم من الحروب خاضت؟ وكم من الانقلابات فعلت لتحل الشيوعية بديلا عن النظم الاقتصادية [ ص: 47 ] والاجتماعية في العديد من بلدان العالم الثالث؟ فمن منحها مشروعية القيام بذلك أيضا؟!
وإذا كانت أمريكا قد قامت عمليا وفعليا بتغيير طبيعة النظم السياسية في عديد من بلدان العالم بالقوة وفرضت الديمقراطية المشينة فيها، وإذا كانت الشيوعية قد فرضت نفسها بقوة الانقلابات في عديد من بلدان العالم الثالث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم أحدا باعتناق الإسلام، بل ترك للأفراد والجماعات (كامل الحرية) لتقرير ما يؤمنون به وما يعتقدونه.. ونحن هنا إزاء ثلاث حالات:
لما كان المسلمون في طريقهم إلى خيبر، ألقت قوة منهم القبض على أعرابي من (أشجع) كان عينا لليهود. فتم التحقيق معه، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطه وتوثيقه، ولما انتهت معارك خيبر عرض عليه الإسلام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :"إني داعيك ثلاثا، فإن لم تسلم لم يخرج الحبل عن عنقك إلا صعدا.. فأسلم الأعرابي" [18] .
أما لماذا (أكره) هذا الأعرابي على الإسلام فلسببين؛ أولهما إنه جاسوس، وعقوبته القتل، ومن ثم فإن دعوته للإسلام إنما كانت فرصة ومناسبة لحقن دمه.
وثانيهما أنه عربي، ولما نزلت سـورة التوبة - فيما بعد - فإنه لم يـكن أمام العرب تحديـدا إلا خياران: الحرب أو الإسـلام، فإنهم أقدر على فهم رسالة الإسـلام؛ لأنه جاء بلسـانهم، وهم يـدركون حقيـقة هـذا الديـن، وما كفرهم إلا عنـادا، وهو ما ينطبق على هذا الأعرابي، وإن كانت هذه الواقعة قبل نزول سورة التوبة. [ ص: 48 ]
وهذا يهودي جاء متسـللا إلى المسـلمين، وقـدم لهم معـلومات مهـمة عن تحصينات اليهود، مقابل أن يمنحه النبي صلى الله عليه وسلم الأمان له ولزوجته، "ثم دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: أنظرني أياما".. وبقي مع المسلمين حتى فتحوا الحصن، الذي فيه زوجته، فسلمها إليه النبي صلى الله عليه وسلم .. فلما فتح المسلمون حصون الوطيح وسلالم أسلم اليهودي من دون إكراه أو تهديد [19] .
وهذه صفية بنت حيي بن أخطب وقعت في أيدي المسلمين مع عدد من اليهود ممن كانوا في حصن النزار، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن تختار الله ورسوله، أو يعيدها إلى أهلها وهي على دينها غير مكرهة ولا مضطرة إلى خلاف ذلك، فقالت: "أختار الله ورسوله والإسلام"، فأسلمت [20] راضية مقتنعة بإرادتها الحرة.
وسنجد تباعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرغم اليهود الذين استسلموا في حصون الكتيبة والوطيح وسلالم على الدخول في الإسلام، بل صولحوا على شروط هم وضعوها غالبا؛ مما يؤكد أن المسلمين كفلوا الحرية الدينية للآخرين - سوى المشـركين العرب - وذلك انطلاقا من قول الله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي (البقرة:256).
أما الجانب الآخـر في طبيعة معارك النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعارك المسـلمين بعامة، أنها لم تكن حروب فتك وإبادة ورغبة في إنزال الموت بأكبر عدد ممكن من أعدائهم، بل كانوا على العكس من ذلك، فهم لم يقتلوا إلا اضطرارا، وقد أشرنا [ ص: 49 ] إلى أن عرض الإسلام على أعدائهم قبل القتال إنما هو في أحد أسبابه لحقن دمائهم، وإلا كان الأولى محاصرتهم ومقاتلتهم والاستيلاء على ما عندهم وسبي نسائهم وذراريهم وقد كان المسلمون في عنفوان قوتهم وتفوقهم واكتسحوا العالم شرقا وغربا، كان بوسعهم إلحاق الدمار بالحرث والنسل، ولكنهم غالبا ما كانوا ميالين إلى الصلح حقنا لدماء الناس.
من جانب آخر، فمع أن عنصـر المباغتة والمفـاجأة في الحرب - كان ومازال - من أهم عناصر كسب الجولة وتحقيق النصر، وهو ما عمد إليه المسلمون، ولكن ليس على طريقة الهجوم المفاجئ، بل على طريق التقدم بزمن قياسي يسبق استكمال العدو لاستعداداته، وهذا ما حصل في خيبر، فقد بلغ المسلمون المكان أسرع مما توقع يهود خيبر، وكانوا قد وصلوا ليلا إلى المكان، لكنهم لم يبادروا إلى الهجوم، لماذا؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإن لم يسمع أذانا أغار، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر [21] . فالإسـلام - حـتى وإن كان ظـاهرا فقط - فإنه يـحـقن دماءهم، وحسابـهم على الله.
فلما وصـل المسـلمون إلى خيبر وعسـكروا إزاء حصـون النطاة، انتـظروا ولم يهجموا، فلما أصبح اليهود، أخذوا عدة عملهم وخرجوا من حصونهم إلى بساتينهم ومزارعهم، فكانت المفاجأة المذهلة بالنسبة لهم أن وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام المسـلمين فصاحوا: "محمد والخميس" وولوا هاربين إلى حصونهم، [ ص: 50 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الله أكبر، الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " [22] . اللافت هنا أن المسلمين لم يتعقبوا الفارين مباشرة ويدخلوا الحصن قبل أن يغلق اليهود عليهم أبوابهم، فقد أرادها المسلمون معركة سـلاح بسـلاح ورجال برجال. فدخل اليهود إلى حصونهم واتخذوا عدة الحرب، ثم بدأت بعد ذلك العمليات القتالية.
لقد كان من الممكن التربص باليهود حتى لحظة فتح أبواب الحصون والخروج إلى أعمالهم من دون سلاح، فتتم مباغتتهم واقتحام الحصون بعملية سريعة خاطفة، يكون النصر فيها ميسورا وسهلا وسريعا. لكن المسلمين لم يفعلوا ذلك، فقد كانت لهم قواعد اشتباك خاصة بهم، حققت لهم النصر من دون إبادة العدو أو التوحش في قتله.
ومما يؤكد عدم الرغبة في التمادي أو الإسراف في القتل، قبول طلب الأمان من أي شخص أو جماعة في أثناء القتال، وهو ما لمسـناه من ذلك اليهودي، ومن ثم أصبح عرفا في معارك المسلمين كافة، إن أي مسلم في جيش المسلمين بوسعه منح الأمان لشخص أو جماعة حتى وإن كان هذا المسلم عبدا؛ فقد كتب عمر رضي الله عنه إلى قادة الجند: "أن عبد المسلمين من المسلمين، ذمته ذمتهم" فأجاز أمانه [23] .
[ ص: 51 ] وكتب أيضا: "أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو: لئن نزلت لأقتلنك فنزل، وهو يرى أنه أمان فقد أمنه" [24] .
وبموازاة ذلك كان النـبي صلى الله عليه وسلم يـوصـي قادتـه: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.. اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا" [25] ، وممن أوصـاهم بذلك مثلا: عبد الرحمن بن عوف في سرية له [26] ، وأسامة بن زيد [27] ، ووصى بذلك أمراء جيش مؤته [28] .
وعلى هذا الأساس فسر المفسرون قول الله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (البقرة:190) ، فذهب ابن كثير في تفسيره إلى أن الأمر بالنهي عن الاعتداء يدخل فيه النهي عن "... المثلة، والغلول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ، الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة" [29] .
وهكذا يتجلى نبل السلوك الإنساني عندما يتفاعل حقيقة مع شريعة الله تعالى، التي تنشد حفظ الحياة وإعمار الأرض وإقامة منهج الاستخلاف وليس إبادة الحياة واستئصالها، الأمر الذي يشير إلى مبلغ التحريف الذي وقع في التوراة [ ص: 52 ] بغية تزوير إرادة الله تعالى وتسويغ الوحشية والرغبة في الإبادة، وليكشف أيضا عن مدى الضلال الذي وقع فيه من يحاربون باسم الرب زورا وبهتانا.
واقعة أخرى مهمة في معركة فتح خيبر تكشف عن طبيعة معارك المسلمين ونياتهم وغاياتهم، تلك الواقعة هي موافقة النبي صلى الله عليه وسلم عند حصاره لحصن القموص، الحصن الرئيس، الذي تقيم فيه قيادات يهودية مهمة، فقد "أجهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فأرسل كنانة رجلا من اليهود يقال له شماخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنزل إليك أكلمك" [30] .. وعندما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم "أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا بالهلكة، سألوه أن يسيرهم، وأن يحقن لهم دماءهم، ففعل" [31] .
فبعد تحطيم خطوط الدفاع الرئيسة في الشق والنطاة، أصبح انهيار خيبر بالكلية أمرا وشيكا، ولم يبق سوى زمن يسير حتى ينتهي كل شيء، فالقوم فقدوا قوتهم الرئيسة، ومعنوياتهم غدت في الحضيض، وكان من الممكن رفض أي عرض للاستسلام ليغدوا الجميع تحت السيف إما قتلا أو استرقاقا، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم آثر أن لا يفعل ذلك، مقدما الصلح على العنوة، تعبيرا عن الرغبة الحقيقية الصادقة في حقن الدماء.
فقد تسامح النبي صلى الله عليه وسلم مع كنانة بن أبي الحقيق وقومه، بأن أبرم معهم صلحا أهم ما حصلوا عليه بموجبه حقن دمائهم وإعفاء نسائهم وذراريهم من السبي، [ ص: 53 ] وهو أمر ما كانوا ليظفروا به لولا روح التسامح التي عاملهم بها النبي صلى الله عليه وسلم . وتضمن الصلح: حقن دماء اليهود في تلك الحصون، ولهم ما حملت ركابهم، وللنبي صلى الله عليه وسلم الصـفراء والبيضـاء والسـلاح، والجلاء من خيبر، بشـرط أن لا يكتمون عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد [32] . وهذه الشروط لم تكن تتضمن إذلالا كبيرا ليهود خيبر [33] ، بمعنى أنه كان بوسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يفرض عليهم ما هو أقسى وأمر من ذلك، فإنهم لم يطلبوا الصلح إلا بعد أن أدركوا وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يعد لهم طاقة للقتال.
فلا إبادة ولا إسراف في القتل ولا إذلال ولا مهانة، بل إن كرامة الإنسان تبقى محفوظة لقول الله تعالى: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا (المائدة:8). وبهذا المنـهج يعزز الإسـلام قيـمة عظيـمة هي احترام الإنسان، أيا كان حاله، بوصـفه ذلك المخلوق الذي كرمه الله تعالى، فمن باب أولى عدم هدم بنيانه أو امتهانه وسحق آدميته.
ومما دل على مزيد من التسامح في منهج تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر النزول عند طلبهم بالمكوث في خيبر، فقد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يمكثوا في خيبر، ليـزرعوا الأرض والقيـام عليها مقابل مناصفة الثمر والحاصل بين الطرفين [34] . [ ص: 54 ] ونص عليهم النبي صلى الله عليه وسلم البقاء في خيبر إلى مـا شاء المسلمون أن يبقوهم فيها [35] . ولا بد من أن نشير أن الموافقة على طلب اليهود هذا جاء انسجاما مع واقع المسلمين أيضا بسبب انشغالهم في الجهاد وعدم تفرغهم تماما للقيام بأمر الأرض وزراعتها على أفضل وجه، فهي بحاجة إلى عـدد كبير من الأيدي العـاملة، التي لم تكن متاحة آنذاك [36] .
وبعد هذا البيان بطبيعة قتال المسلمين في خيبر نجد ثمة أصوات نشاز، رأت الأمور بمنظور آخر مختلف، فقال أحدهم: "إن هذه الغزوة تميزت بما رافقها من حصار طويل وسفك دماء لا رحمة فيه" [37] ، مع أن عدد اليهود الذين قتلوا في معركة خيبر التي دامت قرابة الشهر لم يبلغ المئة قتيل، ومن استشهد من المسلمين لم يبلغ عددهم العشرين، فأية فرية هذه!
وفي السياق نفسه قال آخر: "وهكذا كان الرسول ينبه هذا وينهى ذاك ويحاول رفع القسوة وانعدام الرحمة" [38] ، وهو ادعاء لا يحمل أية قيمة لأنه مناف للوقائع تماما.. وثمة واقعة واحدة قد يكون فيها شيء من القسوة - إن صحت هذه الواقعة - مفادها أن محمد بن مسلمة رضي الله عنه برز لقتال مرحب، وبعد جولات [ ص: 55 ] من المبارزة نجح محمد في قطع ساقي مرحب، فقال له هذا: أجهز علي، فقال له: لا، بل ذق الموت كما أذقته لأخي محمود، ثم جاء علي رضي الله عنه فقطع رأسه [39] ، مع أن طريقة قتل مرحب مختلف فيها، فمن قال أن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قتله [40] ، ومن قال: إن عليا رضي الله عنه هو الذي قتله [41] .
ومن ثم فإن روايـة قتـله الأولى بقطـع سـاقيه ثم قطع رأسـه لا تصـح، فإذا صحت فإنها لا تعني أكثر من كونها حالة فردية لم تذكر المصادر أنها تكررت في القتال، أراد فيها محمد بن مسـلمة الثأر لأخيه محمود، الذي قتله مرحب نفسه بأن ألقى عليه الرحى من أعلى السور، وبقي يصـارع الموت أياما حتى توفاه الله [42] ، فأراد محمد من مرحب أن يتجرع الموت كما تجرعه أخوه محمود. [ ص: 56 ]