ثانيا: هيمنة القيم الروحية
من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أهل الأديان السماوية الأخرى، رسوخ قيمهم الروحية وهيمنتها على حياة المرء، فـ "علومهم وأعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم، وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم" [1] .. ومن بين أعظم الأعمال القلبية الدعاء، الذي هو مناجـاة العبد لربـه في أي وقت من الأوقات، وعلى أي حال من الأحوال كان، ولا بد للدعاء من أن ينصرف فيه العبد تجاه ربه بقلبه وعقله وكامل وجدانه، متيقنا على وجه الحقيقة أن دعاءه لا يضيع عند الله تعالى، فيدعو وقلبه موقن بالإجابة.
والصـلاة، التي هي في أصـلها دعاء ومناجاة لله تعالى، لبها إقبال القلب على الله سـبحانه إقبالا كليا، وحضـوره بكليته بين يدي الله، جـل جـلاله، فإذا لم يقبل عليه واشتغل بغيره، وسرحت نفسه ولهت بما يخالجها، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرا عن خطاياه وزلاته يسأله عفوه وجوده وكرمه ورحمته، فلما بلغ باب الملك، ولم يبق إلا مناجاته له، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينا وشمالا، فكيف سيعامله الملك وهو عنه ساه؟ [2] وعليه فعمل القلب ليس سـلوكا عابرا، بل هو انصراف القلب والنفس والروح تماما إلى الله سبحانه وتعالى في مناجاته والثقة التامة به في كونه مسبب الأسباب.
وهذا يقودنا إلى البحث في مفهوم التوكل وطبيعته وصلته بالأخذ بالأسباب، فالتوكل هو الاعتماد على الله تعالى، والإيمان الراسخ حد اليقين المطلق بأنه هو [ ص: 57 ] مسبب الأسباب، وأن قدره نافذ، وأنه قدر الأمور وأحصاها وكتبها عنده، إلا أنه ليس من التوكل في شيء تعطيل الأسباب، بل يجب الأخذ بها، ومن عطلها فقد خالف شرع الله تعالى، بل لا يجوز للمؤمن تعطيل الأسباب، حتى أنه لا يكون متوكلا على الحقيقة إلا بتعاطي الأسباب، من ذلك أنه سبحانه شرع النكاح لحصول الولد، فكيف يحصل على الولد من توكل ولم يتزوج [3] ؟!
وحقيقة التوكل إنما هو عمل قلبي ينصرف فيه القلب إلى بارئه وخالقه، موحدا له واثقا به، وأن لا نفع إلا ما نفع به، ولا ضر إلا ما ضر به، ومثـل هذا اليقين لا بد من أن ينعكس على عمل الجوارح الذي هو الأخذ بالأسباب، فمن ترك الأخذ بالأسباب فهو العاجز المتواكل، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، وفي الوقت نفسه يستفرغ الوسع في الأخذ بالأسباب مع كمال توكله واعتماده على ربه [4] ، فإن الله تعـالى لم يأمر بالتوكل إلا بعد الأخذ بالأسباب، فقال الله تعالى: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله (آل عمران:159) ، بل إن من أعظم سنن الله تعالى التي نرقبها ونعيشها في كل يوم: أن الله، جل جلاله، قضى بحصول الشيء إذا فعل العبد سببه، فإذا ترك العبد الأسباب امتنع الـمسبب عن الحصول، فلا يحصل المرء على الولد إلا بعد النكاح، كما تقدم.
خلاصة الأمر: أنه لا بد من الأخذ بالأسباب، والاجتهاد والسعي الحثيث أن تكون على أتم ما يكون وأفضل ما هو مستطاع من دون توان أو تقصير، راسخا في ذهنه أن أي تقصير قد يتسبب في فشل ما يسعى إليه. ثم يأتي بعد [ ص: 58 ] ذلك اجتهاده في التوكل على الله، موقنا أن ثقته بالله واعتماده عليه هو السبب الحقيقي لنجاعة عمله وبلوغه مقصده، وأن أسباب الدنيا كلها لو اجتمعت فإنه لم تنله مقصده هذا إلا إذا أراد الله تعالى أن يعطيه إياه.
هكذا كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم في معركة خيبر، فإنه أعد العدة الكاملة الممكنة والمسـتطاعة، من سـلاح وعتاد ورجال وأدلاء وممارسة القتال والتحريض عليه، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أشرف على خيبر قال لأصـحابه: "قفوا"! ثم قال: "قولوا: اللهم رب السـموات السـبع وما أظلت، ورب الأرضـين السـبع وما أقلت، ورب الرياح وما ذرت، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها".. ثم قال: "ادخلوا على بركة الله" [5] ؛ والنبي صلى الله عليه وسلم ما أتى قرية إلا دعا بهذا الدعاء [6] .
إن هذا السلوك من النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا قيمة أساسية في البنيان الإسلامي وتكوينه الحضاري، مفاده أن حركة المسلم في هذه الحياة لا تستقيم وتصل إلى أهدافها إلا حين يرفع بصره وفؤاده وعقله وسمعه وحسه وشعوره إلى الحق سبحانه وتعالى، متلقيا العون والنصر، وصدق الحركة وانتصار قيمها [7] ، ثابت اليقين راسخ العقيدة بأن النصر من عند الله تعالى: إن ينصركم الله فلا غالب لكم (آل عمران:160).. ففي معركة بدر وقف النبي صلى الله عليه وسلم يناجي ربه يقول: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم [ ص: 59 ] فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم - أي أهلكهم- الغداة" [8] .. ولـما التحمت الصفوف واحتدم القتال، وقف النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ملحا: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك" وألح حـتى قـال أبو بـكر رضي الله عنه : "يا رسـول الله، فقـد ألححت على ربك" [9] . وقال: "اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم" [10] ، من باب الإلحاح في الدعاء.
وفي معركة "أحد" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استووا حتى أثني على ربي"، فصاروا خلفه صفوفا، فقال: "اللهم لك الحمد كله.. اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت.. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.. اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول.. اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة - أي حين الفقر- والأمن يوم الخوف... اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين.. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك..." [11] . [ ص: 60 ]
ومما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب.. اللهم اهزمهم وزلزلهم" [12] .
وفي غزوة خيبر أيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإنكم لا تدرون ما تبتلون معهم، وإذا لقيتموهم فقولوا: اللهم أنت ربنا وربهم، ونواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تقتلهم أنت.. ثم الزموا الأرض جلوسا، فإذا غشوكم فانهضوا وكبروا" [13] .
فالأسباب في المنظور الإسلامي نوعان؛ أسباب مادية تتولى أمرها الجوارح، وأسباب قلبية يتولاها القلب، ومع ضرورة عدم التقصير بشيء من الأسباب المادية، إلا أن الأسباب القلبية هي الأوثق عند المسلم، التي ينبغي أن يكون تعلقه الحقيقي بها، فهي تمنحه الطمأنينة والسكينة والثقة بالله تعالى والثقة بالنفس، وهو ما يعزز حالة الاندفاع في القتال والثبات عليه.
ومن هنا يتبين لنا مدى التباين بين الحضارتين؛ حضارة مادية، تعول على المادة التعويل كله، وحضارة إسلامية تأخذ بالأسباب بأوثق ما ينبغي إلا أنها تعول على التوكل على الله تعالى. إذن هما حضارتان متباينتان؛ حضارة مادية جوفاء خاوية من أية روح، في حين قامت الحضارة الإسلامية على أساس التداخل والتفاعل بين المعطيين المادي والروحي، فالحياة تسير بخط متصل يربط بين هذين البعدين ينتج عنه حياة مفعمة بتجليات تجعل الآخرة قاب قوسين أو أدنى من روح المؤمن من دون أن يخسر حياته الدنيوية. [ ص: 62 ]