الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خلق الملائكة وصفاتهم عليهم السلام والآيات في ذكر الملائكة كثيرة جدا يصفهم تعالى بالقوة في العبادة وفي الخلق ، وحسن المنظر ، وعظمة الأشكال ، وقوة الشكل في الصور المتعددة كما قال تعالى : ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات [ هود : 77 - 78 ] . الآيات . فذكرنا في التفسير ما ذكره غير واحد من العلماء من أن الملائكة تبدو لهم في صورة شباب حسان امتحانا واختبارا حتى قامت على قوم لوط الحجة ، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر . وعن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " خلقت الملائكة من نور " . انفرد بإخراجه مسلم . صفة خلق جبريل عليه السلام جبريل عليه السلام كان جبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة ; فتارة يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي ، وتارة في صورة أعرابي ، وتارة في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب ، كما رآه على هذه الصفة مرتين ; مرة منهبطا من السماء إلى الأرض ، وتارة عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ، وهو قوله تعالى : علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى [ النجم : 5 - 8 ] . أي جبريل كما ذكرناه عن غير واحد من الصحابة . فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى . أي إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى [ النجم : 13 - 14 ] . وكل ذلك المراد به جبريل .

            ذكر البيت المعمور وفيه : ثم رفع لي البيت المعمور ، وإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم . وذكر أنه وجد إبراهيم الخليل عليه السلام مستندا ظهره إلى البيت المعمور . وذكرنا وجه المناسبة في هذا ; أن البيت المعمور في السماء السابعة بمنزلة الكعبة في الأرض .

            وعن خالد بن عرعرة ; أن ابن الكواء سأل علي بن أبي طالب ، عن البيت المعمور فقال : هو مسجد في السماء يقال له الضراح ، وهو بحيال الكعبة من فوقها ، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة لا يعودون إليه أبدا .

            وقال آخرون : في كل سماء بيت يعمره ملائكته بالعبادة فيه ، ويفدون إليه بالنوبة والبدل ، كما يعمر أهل الأرض البيت العتيق بالحج في كل عام ، والاعتمار في كل وقت ، والطواف والصلاة في كل آن .

            وفي حديث مجاهد : أن الحرم حرام مناه يعني قدره من السماوات السبع والأرضين السبع ، وأنه رابع أربعة عشر بيتا ; في كل سماء بيت ، وفي كل أرض بيت لو سقطت سقط بعضها على بعض ، ثم روى عن مجاهد قال : مناه ; أي مقابله ، وهو حرف مقصور ، وعن عبد الله بن عمرو يقول : إن الحرم محرم في السماوات السبع مقداره من الأرض ، وإن بيت المقدس مقدس في السماوات السبع مقداره من الأرض . كما قال بعض الشعراء :


            إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أشد وأطول

            واسم البيت الذي في السماء الدنيا بيت العزة ، واسم الملك الذي هو مقدم الملائكة فيها إسماعيل ، فعلى هذا يكون السبعون ألفا من الملائكة الذين يدخلون في كل يوم إلى البيت المعمور ، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم : أي لا تحصل لهم نوبة فيه إلى آخر الدهر ; يكونون من سكان السماء السابعة وحدها ، ولهذا قال تعالى : وما يعلم جنود ربك إلا هو [ المدثر : 31 ] .

            وقال الإمام أحمد بسنده عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء ، وحق لها أن تئط ; ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد ، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ، ولما تلذذتم بالنساء على الفرشات ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل . فقال أبو ذر : والله لوددت أني شجرة تعضد . رواه الترمذي وقال: حسن غريب ، ويروى عن أبي ذر موقوفا .

            وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : بسنده عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا : ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لا نشرك بك شيئا . فدل هذان الحديثان على أنه ما من موضع في السماوات السبع إلا وهو مشغول بالملائكة ، وهم في صنوف من العبادة ; منهم من هو قائم أبدا ، ومنهم من هو راكع أبدا ، ومنهم من هو ساجد أبدا ، ومنهم من هو في صنوف أخر الله أعلم بها ، وهم دائمون في عبادتهم ، وتسبيحهم ، وأذكارهم ، وأعمالهم التي أمرهم الله بها ، ولهم منازل عند ربهم كما قال تعالى : وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون [ الصافات : 164 - 166 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها قالوا : وكيف يصفون عند ربهم ؟ قال : يتمون الصفوف الأول ، ويتراصون في الصف .

            وقال فضلنا على الناس بثلاث ; جعلت لنا الأرض مسجدا ، وتربتها لنا طهورا ، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة . وكذلك يأتون يوم القيامة بين يدي الرب جل جلاله صفوفا . كما قال تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ الفجر : 22 ] . ويقفون صفوفا بين يدي ربهم عز وجل يوم القيامة . كما قال تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ النبأ : 38 ] . والمراد بالروح هاهنا بنو آدم . قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة . وقيل : ضرب من الملائكة يشبهون بني آدم في الشكل . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو صالح ، والأعمش . وقيل : جبريل . قاله الشعبي ، وسعيد بن جبير ، والضحاك . ذكر الملك المسمى بالروح وقيل : ملك يقال له : الروح بقدر جميع المخلوقات . قال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس قوله : يوم يقوم الروح . قال : هو ملك من أعظم الملائكة خلقا .

            وذكرنا في صفة حملة العرش ، عن جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام . رواه أبو داود ، وابن أبي حاتم ، ولفظه " مخفق الطير سبعمائة عام . "

            صفة جبريل عليه السلام وقد ورد في صفة جبريل عليه السلام أمر عظيم : قال الله تعالى : علمه شديد القوى [ النجم : 5 ] . قالوا : كان من شدة قوته أنه رفع مدائن قوم لوط ، وكن سبعا بمن فيها من الأمم ، وكانوا قريبا من أربعمائة ألف ، وما معهم من الدواب والحيوانات ، وما لتلك المدن من الأراضي والمعتملات والعمارات وغير ذلك ، رفع ذلك كله على طرف جناحه حتى بلغ بهن عنان السماء ، حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وصياح ديكتهم ، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها . فهذا هو شديد القوى . وقوله : ذو مرة . أي خلق حسن وبهاء وسناء ، كما قال في الآية الأخرى : إنه لقول رسول كريم [ التكوير : 19 ] . أي : جبريل رسول من الله " كريم " . أي : حسن المنظر " ذي قوة " . أي : له قوة وبأس شديد عند ذي العرش مكين . أي : له مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند الله ذي العرش المجيد . " مطاع ثم " . أي : مطاع في الملأ الأعلى " أمين " . أي : ذي أمانة عظيمة ، ولهذا كان هو السفير بين الله وبين أنبيائه عليهم السلام الذي ينزل عليهم بالوحي فيه الأخبار الصادقة ، والشرائع العادلة . وقد كان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينزل عليه في صفات متعددة كما قدمنا . وقد رآه على صفته التي خلقه الله عليها مرتين ، له ستمائة جناح كما روى البخاري بسنده عن الشيباني قال : سألت زرا ، عن قوله : فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى [ النجم : 9 10 ] . قال : حدثنا عبد الله يعني ابن مسعود : أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح .

            وقال الإمام أحمد بسنده عن عبد الله قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته ، وله ستمائة جناح ; كل جناح منها قد سد الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل من الدر والياقوت ما الله به عليم .

            وقال أحمد بسنده عن شقيق سمعت ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتاني جبريل في خضر تعلق به الدر . إسناده صحيح . بسنده عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله ما كذب الفؤاد ما رأى [ النجم : 11 ] . قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض . إسناد جيد قوي .

            وفي الصحيحين من حديث عامر الشعبي ، عن مسروق قال : كنت عند عائشة فقلت : أليس الله يقول : ولقد رآه بالأفق المبين [ التكوير : 23 ] . ولقد رآه نزلة أخرى [ النجم : 13 ] . فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ، رآه منهبطا من السماء إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض .

            وقال البخاري بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : ألا تزورنا أكثر مما تزورنا قال : فنزلت : وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا [ مريم : 64 ] . الآية . وروى البخاري عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة . وقال البخاري بسنده عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر العصر شيئا ، فقال له عروة : أما إن جبريل قد نزل فصلى أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال عمر : أعلم ما تقول يا عروة . قال : سمعت بشير بن أبي مسعود يقول : سمعت أبا مسعود يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : نزل جبريل فأمني فصليت معه ، ثم صليت معه ، ثم صليت معه ، ثم صليت معه ، ثم صليت معه . يحسب بأصابعه خمس صلوات .

            صفة إسرافيل

            روى ابن عباس ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، أنه قال: "إن ملكا من ملائكة الله تعالى يقال له إسرافيل يحمل زاوية من زوايا العرش على كاهله ، وقدماه في الأرض السفلى قد رنق رأسه في السماء السابعة" .

            قال أبو الحسين أحمد بن جعفر : والملائكة خلقت من نور ، وقد قيل إن المستأنف منها يخلق من دموع إسرافيل . ومن صفة إسرافيل عليه السلام ; وهو أحد حملة العرش ، وهو الذي ينفخ في الصور بأمر ربه نفخات ثلاثة ; أولاهن : نفخة الفزع ، والثانية : نفخة الصعق ، والثالثة : نفخة البعث . والصور : قرن ينفخ فيه ، كل دارة منه كما بين السماء والأرض ، وفيه موضع أرواح العباد حين يأمره الله بالنفخ للبعث ، فإذا نفخ تخرج الأرواح تتوهج ، فيقول الرب جل جلاله : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى البدن الذي كانت تعمره في الدنيا . فتدخل على الأجساد في قبورها ; فتدب فيها كما يدب السم في اللديغ فتحيا الأجساد ، وتنشق عنهم الأجداث ، فيخرجون منها سراعا إلى مقام المحشر .

            ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أنعم ، وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته ، وانتظر أن يؤذن له ؟ قالوا : كيف نقول يا رسول الله ؟ قال : قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا

            وقال الإمام أحمد بسنده عن أبي سعيد قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الصور فقال : عن يمينه جبريل ، وعن يساره ميكائيل عليهم السلام . وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني بسنده عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه جبريل بناحية إذ انشق أفق السماء فأقبل إسرافيل يدنو من الأرض ويتمايل ، فإذا ملك قد مثل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد إن الله يأمرك أن تختار بين نبي عبد أو ملك نبي ؟ قال : فأشار جبريل إلي بيده أن تواضع . فعرفت أنه لي ناصح ، فقلت : عبد نبي . فعرج ذلك الملك إلى السماء فقلت : يا جبريل قد كنت أردت أن أسألك عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة فمن هذا يا جبريل ؟ فقال : هذا إسرافيل عليه السلام خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافا قدميه لا يرفع طرفه ، بينه وبين الرب سبعون نورا ، ما منها من نور يكاد يدنو منه إلا احترق بين يديه لوح ، فإذا أذن الله في شيء من السماء أو في الأرض ، ارتفع ذلك اللوح فضرب جبهته ، فينظر فإن كان من عملي أمرني به . وإن كان من عمل ميكائيل أمره به . وإن كان من عمل ملك الموت أمره به . قلت : يا جبريل وعلى أي شيء أنت ؟ قال : على الريح والجنود . قلت : وعلى أي شيء ميكائيل ؟ قال : على النبات والقطر ؟ قلت : وعلى أي شيء ملك الموت ؟ قال : على قبض الأنفس . وما ظننت أنه نزل إلا لقيام الساعة ، وما الذي رأيت مني إلا خوفا من قيام الساعة . هذا حديث غريب من هذا الوجه .

            وفي صحيح مسلم ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .

            وفي حديث الصور : أن إسرافيل أول من يبعثه الله بعد الصعق لينفخ في الصور . وذكر محمد بن الحسن النقاش : أن إسرافيل أول من سجد من الملائكة ، فجوزي بولاية اللوح المحفوظ . حكاه أبو القاسم السهيلي في كتابه " التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأعلام " . صفة ميكائيل عليه السلام وقال تعالى : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال [ البقرة : 98 ] . عطفهما على الملائكة لشرفهما فجبريل ملك عظيم ، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات ، وهو ذو مكانة من ربه عز وجل ، ومن أشراف الملائكة المقربين .

            وقد قال الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل : ما لي لم أر ميكائيل ضاحكا قط . فقال : ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار . فهؤلاء الملائكة المصرح بذكرهم في القرآن ، وفي الصحاح هم المذكورون في الدعاء النبوي : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل . فجبريل ينزل بالهدى على الرسل لتبليغ الأمم ، وميكائيل موكل بالقطر والنبات اللذين يخلق منهما الأرزاق في هذه الدار ، وله أعوان يفعلون ما يأمرهم به بأمر ربه يصرفون الرياح والسحاب كما يشاء الرب جل جلاله . وقد روينا أنه ما من قطرة تنزل من السماء إلا ومعها ملك يقدرها في موضعها من الأرض ، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور للقيام من القبور ، والحضور يوم البعث والنشور ليفوز الشكور ، ويجازى الكفور فذاك ذنبه مغفور وسعيه مشكور ، وهذا قد صار عمله كالهباء المنثور وهو يدعو بالويل والثبور .

            فجبريل عليه السلام يحصل بما ينزل به الهدى ، وميكائيل يحصل بما هو موكل به الرزق ، وإسرافيل يحصل بما هو موكل به النصر والجزاء صفة ملك الموت وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن ، ولا في الأحاديث الصحاح ، وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل ، والله أعلم .

            وقد قال الله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون [ السجدة : 11 ] . وله أعوان يستخرجون روح العبد من جثته حتى تبلغ الحلقوم فيتناولها ملك الموت بيده ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها من يده فيلفوها في أكفان تليق بها . كما قد بسط عند قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [ إبراهيم : 27 ] . ثم يصعدون بها ، فإن كانت صالحة فتحت لها أبواب السماء ، وإلا غلقت دونها ، وألقي بها إلى الأرض . قال الله تعالى : وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [ الأنعام : 61 - 62 ] .

            وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد أنهم قالوا : إن الأرض بين يدي ملك الموت مثل الطست يتناول منها حيث يشاء . وقد ذكرنا أن ملائكة الموت يأتون الإنسان على حسب عمله إن كان مؤمنا أتاه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب طيبة الأرواح ، وإن كان كافرا فبالضد من ذلك عياذا بالله العظيم من ذلك .

            وقد قال ابن أبي حاتم بسنده عن جعفر بن محمد قال : سمعت أبي يقول : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن . فقال ملك الموت : يا محمد طب نفسا ، وقر عينا فإني بكل مؤمن رفيق ، واعلم أن ما في الأرض بيت مدر ، ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات ، حتى إني أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ، والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها . قال جعفر بن محمد وهو جعفر الصادق : بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلاة ، فإذا حضر عند الموت فإذا كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ، ودفع عنه الشيطان ، ولقنه الملك : لا إله إلا الله محمد رسول الله . في تلك الحال العظيمة . هذا حديث مرسل ، وفيه نظر . وذكرنا في حديث الصور عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . الحديث بطوله ، وفيه : ويأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق ، فينفخ نفخة الصعق ; فيصعق أهل السماوات ، وأهل الأرض إلا من شاء الله ، فإذا هم قد خمدوا ، جاء ملك الموت إلى الجبار عز وجل ، فيقول : يا رب قد مات أهل السماوات والأرض إلا من شئت . فيقول الله وهو أعلم بمن بقي : فمن بقي ؟ فيقول : يا رب بقيت أنت الحي الذي لا يموت ، وبقيت حملة عرشك ، وبقي جبريل وميكائيل . فيقول : ليمت جبريل وميكائيل . فينطق الله العرش فيقول : يا رب يموت جبريل وميكائيل . فيقول : اسكت فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي . فيموتان ، ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار عز وجل ، فيقول : يا رب قد مات جبريل وميكائيل فيقول الله وهو أعلم : بمن بقي فمن بقي ؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي لا يموت ، وبقيت حملة عرشك ، وبقيت أنا . فيقول الله : لتمت حملة عرشي . فيموتون ، ويأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ، ثم يأتي ملك الموت فيقول : يا رب قد مات حملة عرشك . فيقول الله وهو أعلم بمن بقي فمن بقي ؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي لا يموت ، وبقيت أنا فيقول الله : أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت . فيموت ، فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الأحد الصمد الذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد كان آخرا كما كان أولا .

            وذكر تمام الحديث بطوله . رواه الطبراني ، وابن جرير ، والبيهقي . ورواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب " الطوالات " وعنده زيادة غريبة ، وهي قوله : فيقول الله له : " أنت خلق من خلقي خلقتك لما أردت فمت موتا لا تحيا بعده أبدا " .

            صفة هاروت وماروت ومن الملائكة المنصوص على أسمائهم في القرآن : هاروت ، وماروت ، في قول جماعة كثيرة من السلف . وقد ورد في قصتهما وما كان من أمرهما آثار كثيرة غالبها إسرائيليات . وروى الإمام أحمد حديثا مرفوعا ، عن ابن عمر ، وصححه ابن حبان في " تقاسيمه " ، وفي صحته عندي نظر ، والأشبه أنه موقوف على عبد الله بن عمر ، ويكون مما تلقاه عن كعب الأحبار ، والله أعلم . وفيه : أنه تمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر . وعن علي ، وابن عباس ، وابن عمر أيضا : أن الزهرة كانت امرأة ، وأنهما لما طلبا منها ما ذكر ، أبت إلا أن يعلماها الاسم الأعظم ، فعلماها فقالته : فارتفعت إلى السماء فصارت كوكبا . وروى الحاكم في " مستدركه " عن ابن عباس قال : وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب . وهذا اللفظ أحسن ما ورد في شأن الزهرة ، ثم قيل : كان أمرهما ، وقصتهما في زمان إدريس . وقيل : في زمان سليمان بن داود . كما حررنا ذلك في التفسير .

            وبالجملة فهو خبر إسرائيلي مرجعه إلى كعب الأحبار ،

            ، ثم قد قيل : إن المراد بقوله : وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت [ البقرة : 102 ] . قبيلان من الجان . قاله ابن حزم ، وهذا غريب وبعيد من اللفظ . ومن الناس من قرأ : " وما أنزل على الملكين " . بالكسر ، ويجعلهما علجين من أهل فارس قاله الضحاك ، ومن الناس من يقول : هما ملكان من السماء . ولكن سبق في قدر الله لهما ما ذكره من أمرهما إن صح به الخبر ، ويكون حكمهما كحكم إبليس إن قيل : إنه من الملائكة . لكن الصحيح أنه من الجن ، .

            صفة منكر ونكير وملك الجبال ومن الملائكة المسمين في الحديث : منكر ونكير عليهما السلام ، وقد استفاض في الأحاديث ذكرهما في سؤال القبر . وقد أوردناها عند قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [ إبراهيم : 27 ] . وهما فتانا القبر ، موكلان بسؤال الميت في قبره ، عن ربه ، ودينه ، ونبيه ، ويمتحنان البر والفاجر ، وهما أزرقان أفرقان لهما أنياب وأشكال مزعجة وأصوات مفزعة . أجارنا الله من عذاب القبر ، وثبتنا بالقول الثابت آمين .

            وقال البخاري : بسنده أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته : أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا به عليك ، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال فسلم علي ، ثم قال : يا محمد . فقال : ذلك فما شئت : إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا . ورواه مسلم من حديث ابن وهب به .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية