الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            احتجاج آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام

            قال البخاري بسنده عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حاج موسى آدم عليهما السلام فقال له : أنت الذي أخرجت الناس بذنبك من الجنة وأشقيتهم ! قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ! أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني ، أو قدره علي قبل أن يخلقني . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى .

            وعن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال موسى عليه السلام : يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة . فأراه آدم عليه السلام ، فقال : أنت آدم ! فقال له آدم : نعم . قال : أنت الذي نفخ الله فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك الأسماء كلها ! قال : نعم . قال : فما حملك على أن أخرجتنا ، ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : من أنت ؟ قال : أنا موسى . قال : أنت موسى نبي بني إسرائيل ، أنت الذي كلمك الله من وراء الحجاب فلم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه ! قال : نعم . قال : تلومني على أمر قد سبق من الله عز وجل القضاء به قبل ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى ، فحج آدم موسى .

            وقد اختلفت مسالك الناس في هذا الحديث فرده قوم من القدرية لما تضمن من إثبات القدر السابق . واحتج به قوم من الجبرية ، وهو ظاهر لهم بادي الرأي ; حيث قال : فحج آدم موسى . لما احتج عليه بتقديم كتابه ، وقال آخرون : إنما حجه لأنه لامه على ذنب قد تاب منه ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له . وقيل : إنما حجه لأنه أكبر منه وأقدم . وقيل : لأنه أبوه . وقيل : لأنهما في شريعتين متغايرتين . وقيل : لأنهما في دار البرزخ ، وقد انقطع التكليف فيما يزعمونه .

            والتحقيق : إن هذا الحديث روي بألفاظ كثيرة بعضها مروي بالمعنى وفيه نظر ، ومدار معظمها في الصحيحين ، وغيرهما على أنه لامه على إخراجه نفسه وذريته من الجنة . فقال له آدم : أنا لم أخرجكم ، وإنما أخرجكم الذي رتب الإخراج على أكلي من الشجرة ، والذي رتب ذلك ، وقدره وكتبه قبل أن أخلق هو الله عز وجل ، فأنت تلومني على أمر ليس له نسبة إلي أكثر ما أني نهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها ، وكون الإخراج مترتبا على ذلك ليس من فعلي ، فأنا لم أخرجكم ولا نفسي من الجنة ، وإنما كان هذا من قدر الله وصنعه ، وله الحكمة في ذلك فلهذا حج آدم موسى .

            ومن كذب بهذا الحديث فمعاند لأنه متواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وناهيك به عدالة وحفظا وإتقانا ، ثم هو مروي عن غيره من الصحابة ، كما ذكرنا . ومن تأوله بتلك التأويلات المذكورة آنفا فهو بعيد من اللفظ والمعنى ، وما فيهم من هو أقوى مسلكا من الجبرية . وفيما قالوه نظر من وجوه ; أحدها : أن موسى عليه السلام لا يلوم على أمر قد تاب منه فاعله . الثاني : أنه قد قتل نفسا لم يؤمر بقتلها ، وقد سأل الله في ذلك بقوله : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له [ القصص : 16 ] . الآية ، الثالث : أنه لو كان الجواب عن اللوم على الذنب بالقدر المتقدم كتابته على العبد لانفتح هذا لكل من ليم على أمر قد فعله ، فيحتج بالقدر السابق ، فينسد باب القصاص والحدود ، ولو كان القدر حجة لاحتج به كل أحد على الأمر الذي ارتكبه في الأمور الكبار والصغار ، وهذا يفضي إلى لوازم فظيعة . فلهذا قال من قال من العلماء بأن جواب آدم إنما كان احتجاجا بالقدر على المصيبة لا المعصية . والله تعالى أعلم بالصواب ، وهو حسبي ونعم الوكيل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية