الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثم قال تعالى : قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم . هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الأرض ، وأمكن السعي فيها ، والاستقرار عليها ، أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودي وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور ، وقد قدمنا ذكره عند خلق الجبال بسلام منا وبركات . أي اهبط سالما مباركا عليك ، وعلى أمم ممن سيولد بعد . أي من أولادك فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا ، ولا عقبا سوى نوح عليه السلام قال تعالى : وجعلنا ذريته هم الباقين . إخبار عيسى عليه السلام للحوارين عن سفينة نوح وعن ابن عباس أنه قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا عنها ؟ قال : فانطلق بهم حتى أتى إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه ، قال : أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : هذا كعب حام بن نوح . قال : وضرب الكثيب بعصاه ، وقال : قم بإذن الله . فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب . فقال له : عيسى عليه السلام هكذا هلكت . قال : لا . ولكني مت وأنا شاب ، ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت . قال : حدثنا عن سفينة نوح . قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات ; فطبقة فيها الدواب والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير ، فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل ، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث ، ولما وقع الفأر يخرز السفينة بقرضه أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر . فقال له عيسى : كيف علم نوح عليه السلام أن البلاد قد غرقت . قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها ، فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت . قال : ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها ، فعلم أن البلاد قد غرقت فطوقها الخضرة التي في عنقها ، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف البيوت . قال : فقالوا : يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال : فقال له : عد بإذن الله فعاد ترابا ، وهذا أثر غريب جدا .

            وعن ابن عباس قال : كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم ، وأنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما ، وأن الله وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما ، ثم وجهها إلى الجودي فاستقرت عليه فبعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الأرض ، فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه ، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ، ولطخت رجليها بالطين ، فعرف نوح أن الماء قد نضب ، فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية ، وسماها ثمانين ، فأصبحوا ذات يوم ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ; إحداها لغة العربي ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض ، فكان نوح عليه السلام يعبر عنه .

            وقال قتادة وغيره : ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوما ، واستقرت بهم على الجودي شهرا ، وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم ، وقد روى ابن جرير خبرا مرفوعا يوافق هذا ، وأنهم صاموا يومهم ذلك .

            وعن أبي هريرة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود ، وقد صاموا يوم عاشوراء فقال : " ما هذا من الصوم ؟ " فقالوا : هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق ، وغرق فيه فرعون ، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله عز وجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم " . وقال لأصحابه : " من كان منكم أصبح صائما فليتم صومه ، ومن كان أصاب من غداء أهله فليتم بقية يومه " . وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر ، والمستغرب ذكر نوح أيضا . والله أعلم .

            وأما ما يذكره كثير من الجهلة : أنهم أكلوا من فضول أزوادهم ، ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها ، وطحنوا الحبوب يومئذ ، واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لما ابهارت من الضياء بعد ما كانوا في ظلمة السفينة ، فكل هذا لا يصح فيه شيء ، وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني إسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقتدى بها ، والله أعلم .

            انتهاء الطوفان وقال محمد بن إسحاق : لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان أرسل ريحا على وجه الأرض فسكن الماء ، وانسدت ينابيع الأرض ، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر ، وكان استواء الفلك على الجودي فيما يزعم أهل التوراة في الشهر السابع لسبع عشر ليلة مضت منه ، وفي أول يوم من الشهر العاشر رئيت رءوس الجبال ، فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التي صنع فيها ، ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه ، فأرسل الحمامة فرجعت إليه فلم يجد لرجليها موضعا ، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ، ثم مضت سبعة أيام ، ثم أرسلها لتنظر له ، فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتونة فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض ، ثم مكث سبعة أيام ، ثم أرسلها فلم ترجع إليه فعلم نوح أن الأرض قد برزت ، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ، ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين برز وجه الأرض وظهر البر ، وكشف نوح غطاء الفلك . وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب قال ابن إسحاق : وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم . وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحا قائلا له : اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك ، وجميع الدواب التي معك ، ولتنموا ولتكثروا في الأرض ، فخرجوا ، وابتنى نوح مذبحا لله عز وجل ، وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قربانا إلى الله عز وجل ، وعهد الله إليه أن لا يعيد الطوفان على أهل الأرض ، وجعل تذكار الميثاق إليه القوس الذي في الغمام ، وهو قوس قزح الذي قدمنا عن ابن عباس أنه أمان من الغرق . قال بعضهم : فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر . أي ; أن هذا الغمام لا يوجد منه طوفان كأول مرة . والله أعلم

            التالي السابق


            الخدمات العلمية