الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير ما آية ، كقوله : فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين . وكقوله : ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود . وكقوله : فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين . وقال تعالى : فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .

            تفصيل هلاك قوم هود وأما تفصيل إهلاكهم ; فلما قال تعالى : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم . كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب أنهم كانوا ممحلين مسنتين فطلبوا السقيا ، فرأوا عارضا في السماء وظنوه سقيا رحمة فإذا هو سقيا عذاب ، ولهذا قال تعالى : بل هو ما استعجلتم به . أي ; من وقوع العذاب . وهو قولهم : فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . ومثلها في الأعراف .

            وقد ذكر المفسرون وغيرهم هاهنا الخبر . الذي ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار قال : فلما أبوا إلا الكفر بالله عز وجل أمسك عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك . قال : وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان فطلبوا من الله الفرج منه إنما يطلبونه بحرمه ومكان بيته . وكان معروفا عند أهل ذلك الزمان ، وبه العماليق مقيمون وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له معاوية بن بكر ، وكانت أمه من قوم عاد ، واسمها : جلهدة ابنة الخيبري . قال : فبعث عاد وفدا قريبا من سبعين رجلا ليستقوا لهم عند الحرم ، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر تغنيهم الجرداتان قينتان لمعاوية وكانوا قد وصلوا إليه في شهر ، فلما طال مقامهم عنده ، وأخذته شفقة على قومه ، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف ، عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف ، وأمر القينتين أن تغنيهم به ، فقال :


            ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما     فيسقي أرض عاد إن عادا
            قد أمسوا لا يبينون الكلاما     من العطش الشديد فليس نرجو
            به الشيخ الكبير ولا الغلاما     وقد كانت نساؤهم بخير
            فقد أمست نساؤهم عياما     وإن الوحش يأتيهم جهارا
            ولا يخشى لعادي سهاما     وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم
            نهاركم وليلكم التماما     فقبح وفدكم من وفد قوم
            ولا لقوا التحية والسلاما

            قال : فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له ، فنهضوا إلى الحرم ودعوا لقومهم فدعا داعيهم ، وهو قيل بن عتر فأنشأ الله سحابات ثلاثا ; بيضاء ، وحمراء ، وسوداء . ثم ناداه مناد من السماء : اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب . فقال : اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء . فناداه مناد : اخترت رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا لا والدا تترك ولا ولدا ، إلا جعلته همدا ، إلا بني اللوذية المهدا . قال : وهو بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة فلم يصبهم ما أصاب قومهم . قال : ومن بقي من أنسابهم وأعقابهم هم عاد الآخرة . قال : وساق الله السحابة السوداء التي اختارها . قيل بن عتر بما فيها من النقمة إلى عاد حتى تخرج عليهم من واد يقال له : المغيث ، فلما رأوها استبشروا ، وقالوا : هذا عارض ممطرنا . فيقول تعالى : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها . أي ; كل شيء أمرت به فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها : مهد ، فلما تبينت ما فيها صاحت ، ثم صعقت ، فلما أفاقت قالوا : ما رأيت يا مهد ؟ قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار ، أمامها رجال يقودونها . فلما خرجت الريح من الوادي قال سبعة رهط منهم ، أحدهم الخلجان : تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردها . فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله فتدق عنقه ، وبقي الخلجان فمال إلى الجبل وقال :


            لم يبق إلا الخلجان نفسه     يا لك من يوم دهاني أمسه
            بثابت الوطء شديد وطسه     لو لم يجئني جئته أجسه



            فقال له هود : أسلم تسلم . فقال : وما لي ؟ قال : الجنة . فقال : فما هؤلاء الذين في السحاب كأنهم البخت ؟ قال : الملائكة . قال : أيعيذني ربك منهم إن أسلمت ؟ قال : هل رأيت ملكا يعيذ من جنده ؟ قال : لو فعل ما رضيت .

            ثم جاءت الريح وألحقته بأصحابه استمرار الريح سبع ليال وثمانية أيام متواصلة فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما . والحسوم : الدائمة . فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك . قال : واعتزل هود عليه السلام فيما ذكر لي في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين ، ما يصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود ، وتلتذ الأنفس ، وإنها لتمر على عاد بالظعن فيما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة ، وذكر تمام القصة .

            وقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن يزيد البكري . قال : خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها ، فقالت لي : يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال : فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق ، وبلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما شأن الناس قالوا : يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها ، قال : فجلست ، قال : فدخل منزله أو قال : رحله ، فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فدخلت فسلمت ، فقال : هل كان بينكم وبين بني تميم شيء . فقلت : نعم . قال : وكانت لنا الدبرة عليهم ، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها ، فسألتني أن أحملها إليك ، وها هي بالباب ، فأذن لها فدخلت ، فقلت : يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزا فاجعل الدهناء ، فحميت العجوز واستوفزت ، وقالت : يا رسول الله فإلى أين تضطر مضرك ؟ قال : قلت : إن مثلي ما قال الأول : معزى حملت حتفها . حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما ، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد ، قال : هيه وما وافد عاد ؟ وهو أعلم بالحديث منه ، ولكن يستطعمه ، قلت : إن عادا قحطوا ، فبعثوا وفدا لهم يقال له : قيل فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر ، وتغنيه جاريتان يقال لهما : الجرادتان ، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة ، فقال : اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه ، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه ، فمرت به سحابات سود ، فنودي منها : اختر . فأومأ إلى سحابة منها سوداء . فنودي منها : خذها رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا . قال : فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا كقدر ما يجري في خاتمي هذا من الريح حتى هلكوا . قال أبو وائل : وصدق وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وفدا لهم ، قالوا : لا تكن كوافد عاد .

            وقد يكون هذا السياق لإهلاك عاد الآخرة فإن فيما ذكره ابن إسحاق ، وغيره ذكرا لمكة ، ولم تبن إلا بعد إبراهيم الخليل حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل ، فنزلت جرهم عندهم ، وعاد الأولى قبل الخليل ، وفيه ذكر معاوية بن بكر وشعره ، وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الأولى لا يشبه كلام المتقدمين . وفيه أن في تلك السحابة شرر نار ، وعاد الأولى إنما أهلكوا بريح صرصر . وقد قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وغير واحد من أئمة التابعين : هي الباردة ، والعاتية الشديدة الهبوب سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما [ الحاقة : 7 ] . أي ; كوامل متتابعات . قيل : كان أولها الجمعة . وقيل : الأربعاء . فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية [ الحاقة : 7 ] . شبههم بأعجاز النخل التي لا رءوس لها ، وذلك لأن الريح كانت تجيء إلى أحدهم فتحمله فترفعه في الهواء ، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه ، فيبقى جثة بلا رأس ، كما قال : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر [ القمر : 19 ] . أي ; في يوم نحس عليهم ، مستمر عذابه عليهم ، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر [ القمر : 20 ] . ومن قال : إن اليوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء . وتشاءم به لهذا الفهم فقد أخطأ وخالف القرآن ، فإنه قال في الآية الأخرى : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات [ فصلت : 16 ] . ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات ، فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع الأيام السبعة المندرجة فيها مشئومة . وهذا لا يقوله أحد ، وإنما المراد في أيام نحسات أي ; عليهم . وقال تعالى وفي عاد : إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم [ الذاريات : 41 ] . أي التي لا تنتج خيرا فإن الريح المفردة لا تنثر سحابا ولا تلقح شجرا ، بل هي عقيم لا نتيجة خير لها ، ولهذا قال : ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ الذاريات : 42 ] . أي ; كالشيء البالي الفاني الذي لا ينتفع به بالكلية . وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور . وأما قوله تعالى : واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [ الأحقاف : 21 ] . فالظاهر أن عادا هذه هي عاد الأولى فإن سياقها شبيه بسياق قوم هود ، وهم الأولى . ويحتمل أن يكون المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية . وأما قوله : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا [ الأحقاف : 24 ] . فإن عادا لما رأوا هذا العارض ، وهو الناشئ في الجو كالسحاب ، ظنوه سحاب مطر فإذا هو سحاب عذاب ، اعتقدوه رحمة فإذا هو نقمة ، رجوا فيه الخير فنالوا منه غاية الشر . قال الله تعالى : بل هو ما استعجلتم به [ الأحقاف : 24 ] . أي ; من العذاب ، ثم فسره بقوله : ريح فيها عذاب أليم . [ الأحقاف : 24 ] . يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوب التي استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية ، فلم تبق منهم أحدا ، بل تتبعتهم حتى كانت تدخل عليهم كهوف الجبال والغيران فتلفهم وتخرجهم وتهلكهم ، وتدمر عليهم البيوت المحكمة ، والقصور المشيدة فكما منوا بقوتهم وشدتهم ، وقالوا : من أشد منا قوة ؟ سلط الله الذي هو أشد منهم قوة عليهم ما هو أشد منهم قوة ، وأقدر عليهم ، وهو الريح العقيم . ويحتمل أن هذه الريح أثارت في آخر الأمر سحابة ظن من بقي منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم ، وغياث لمن بقي منهم فأرسلها الله عليهم شررا ونارا ، كما ذكره غير واحد . ويكون هذا كما أصاب أصحاب الظلة من أهل مدين ، وجمع لهم بين الريح الباردة ، وعذاب النار ، وهو أشد ما يكون من العذاب بالأشياء المختلفة المتضادة مع الصيحة التي ذكرها في سورة قد أفلح المؤمنون . والله أعلم .

            وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والأرض ، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها قالوا هذا عارض ممطرنا . [ الأحقاف : 24 ] . فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة . قال : عتت على خزائنها حتى خرجت من خلال الأبواب . قلت : وقال غيره خرجت بغير حساب .

            وظاهر الآية أنهم رأوا عارضا ، والمفهوم منه لغة السحاب . كما دل عليه حديث الحارث بن حسان البكري إن جعلناه مفسرا لهذه القصة ، وأصرح منه في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح ، قال : اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به . وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ، وشر ما أرسلت به . قالت : وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سري عنه ، فعرفت ذلك عائشة فسألته ، فقال : لعله يا عائشة كما قال قوم عاد : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا . رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث ابن جريج .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية