الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وحملهم الكفر والضلال والعناد على استبعاد الحق ، ووقوع العذاب بهم فلهذا قال لهم صالح : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام . أي غير يومهم ذلك ، فلم يصدقوه أيضا في هذا الوعد الأكيد ، بل لما أمسوا هموا بقتله ، وأرادوا فيما يزعمون أن يلحقوه بالناقة وقالوا : نخرج فترى الناس أننا نريد السفر فنأتي الغار الذي على طريق صالح فنكون فيه ، فإذا جاء الليل وخرج صالح إلى مسجده قتلناه ، ثم رجعنا إلى الغار ، ثم انصرفنا إلى رحالنا ، وقلنا ما شهدنا قتله فيصدقنا قومه . وكان صالح لا يبيت معهم ، كان يخرج إلى مسجد له يعرف بمسجد صالح فيبيت فيه ، فلما دخلوا الغار سقطت عليهم صخرة فقتلتهم ، فانطلق رجال ممن عرف الحال إلى الغار فرأوهم هلكى ، فعادوا يصيحون : إن صالحا أمرهم بقتل أولادهم ، ثم قتلهم .

            وقيل : إنما كان تقاسم التسعة على قتل صالح بعد عقر الناقة وإنذار صالح إياهم بالعذاب ، وذلك أن التسعة الذين عقروا الناقة قالوا : تعالوا فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلنا قتله ، وإن كان كاذبا ألحقناه بالناقة ، فأتوه ليلا في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فهلكوا ، فأتى أصحابهم فرأوهم هلكى فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، وأرادوا قتله ، فمنعهم عشيرته وقالوا : إنه قد أنذركم العذاب ، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم غضبا ، وإن كان كاذبا فنحن نسلمه إليكم ، فعادوا عنه ، فعلى القول الأول يكون التسعة الذين تقاسموا غير الذين عقروا الناقة ، والثاني أصح ، والله أعلم . قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله . أي لنكبسنه في داره مع أهله فلنقتلنه ، ثم نجحدن قتله ، وننكرن ذلك إن طالبنا أولياؤه بدمه ؛ ولهذا قالوا : ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون . وقال الله تعالى : ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون . وأصبحت ثمود يوم الخميس ، وهو اليوم الأول من أيام النظرة ، ووجوههم مصفرة ، كما أنذرهم صالح عليه السلام ، فلما أمسوا نادوا بأجمعهم : ألا قد مضى يوم من الأجل ، ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل ، وهو يوم الجمعة ، ووجوههم محمرة ، فلما أمسوا نادوا : ألا قد مضى يومان من الأجل ، ثم أصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع ، وهو يوم السبت ، ووجوههم مسودة ، فلما أمسوا نادوا : ألا قد مضى الأجل ، فلما كان صبيحة يوم الأحد تحنطوا وتأهبوا ، وقعدوا ينظرون ماذا يحل بهم من العذاب والنكال والنقمة لا يدرون كيف يفعل بهم ، ولا من أي جهة يأتيهم العذاب ، فلما أشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم ، ورجفة شديدة من أسفل منهم ، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس ، وسكنت الحركات ، وخشعت الأصوات ، وحقت الحقائق ، فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثا لا أرواح فيها ، ولا حراك بها قالوا : ولم يبق منهم أحد إلا جارية كانت مقعدة ، واسمها : كلبة بنت السلق ، ويقال لها : الزريعة . وكانت شديدة الكفر والعداوة لصالح عليه السلام ، فلما رأت العذاب أطلقت رجلاها ، فقامت تسعى كأسرع شيء فأتت حيا من العرب فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها ، واستسقتهم ماء ، فلما شربت ماتت . قال الله تعالى : كأن لم يغنوا فيها . أي لم يقيموا فيها في سعة ، ورزق ، وغناء : ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود . أي نادى عليهم لسان القدر بهذا .

            قال الإمام أحمد بسنده عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت يعني الناقة ترد من هذا الفج ، وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يوما ، ويشربون لبنها يوما ، فعقروها ، فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله . فقالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : هو أبو رغال ، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه . وهذا الحديث على شرط مسلم ، وليس هو في شيء من الكتب الستة ، والله أعلم .

            وعن إسماعيل بن أمية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال ، فقال : أتدرون من هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : هذا قبر أبي رغال رجل من ثمود كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله عذاب الله ، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ، فدفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب . فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم فبحثوا عنه ، فاستخرجوا الغصن .

            خطاب صالح قومه بعد هلاكهم وقوله تعالى : فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين . إخبار عن صالح عليه السلام أنه خاطب قومه بعد هلاكهم ، وقد أخذ في الذهاب عن محلتهم إلى غيرها قائلا لهم : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم . أي جهدت في هدايتكم بكل ما أمكنني ، وحرصت على ذلك بقولي وفعلي ونيتي ولكن لا تحبون الناصحين . أي لم تكن سجاياكم تقبل الحق ولا تريده ، فلهذا صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب الأليم المستمر بكم المتصل إلى الأبد ، وليس لي فيكم حيلة ، ولا لي بالدفع عنكم يدان ، والذي وجب علي من أداء الرسالة والنصح لكم قد فعلته وبذلته لكم ، ولكن الله يفعل ما يريد . وهكذا خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر بعد ثلاث ليال ، وقف عليهم ، وقد ركب راحلته ، وأمر بالرحيل من آخر الليل ، فقال : يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا . وقال لهم فيما قال : بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم . فقال له عمر : يا رسول الله تخاطب أقواما قد جيفوا . فقال : والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يجيبون .

            وقد ذكر أن قوم صالح كانت أعمارهم طويلة ، فكانوا يبنون البيوت من المدر فتخرب قبل موت الواحد منهم ، فنحتوا لهم بيوتا في الجبال ، وذكروا أن صالحا عليه السلام لما سألوه آية ، فأخرج الله لهم الناقة من الصخرة أمرهم بها وبالولد الذي كان في جوفها ، وحذرهم بأس الله إن هم نالوها بسوء ، وأخبرهم أنهم سيعقرونها ، ويكون سبب هلاكهم ذلك ، وذكر لهم صفة عاقرها ، وأنه أحمر أزرق أصهب ، فبعثوا القوابل في البلد متى وجدوا مولودا بهذه الصفة يقتلنه ، فكانوا على ذلك دهرا طويلا ، وانقرض جيل وأتى جيل آخر ، فلما كان في بعض الأعصار خطب رئيس من رؤسائهم على ابنه بنت آخر مثله في الرياسة ، فزوجه فولد بينهما عاقر الناقة ، وهو قدار بن سالف ، فلم تتمكن القوابل من قتله لشرف أبويه وجديه فيهم ، فنشأ نشأة سريعة فكان يشب في الجمعة ، كما يشب غيره في شهر ، حتى كان من أمره أن خرج مطاعا فيهم رئيسا بينهم ، فسولت له نفسه عقر الناقة ، واتبعه على ذلك ثمانية من أشرافهم ، وهم التسعة الذين أرادوا قتل صالح عليه السلام ، فلما وقع من أمرهم ما وقع من عقر الناقة ، وبلغ ذلك صالحا عليه السلام جاءهم باكيا عليها فتلقوه يعتذرون إليه ، ويقولون : إن هذا لم يقع عن ملأ منا ، وإنما فعل هذا هؤلاء الأحداث فينا ، فيقال إنه أمرهم باستدراك سقبها حتى يحسنوا إليه عوضا عنها ، فذهبوا وراءه فصعد جبلا هناك ، فلما تصاعدوا فيه وراءه تعالى الجبل حتى ارتفع فلا يناله الطير ، وبكى الفصيل حتى سالت دموعه ، ثم استقبل صالحا عليه السلام ، ورغا ثلاثا فعندها قال صالح : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب . وأخبرهم أنهم يصبحون من غدهم صفرا ، ثم تحمر وجوههم في الثاني ، وفي اليوم الثالث تسود وجوههم ، فلما كان في اليوم الرابع أتتهم صيحة فيها صوت كل صاعقة فأخمدتهم فأصبحوا في دارهم جاثمين ، وفي بعض هذا السياق نظر ومخالفة لظاهر ما يفهم من القرآن في شأنهم وقصتهم ، كما قدمنا . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية