ثم إن نمرود وأصحابه قصة إلقائه في النار أجمعوا على قتل إبراهيم قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين . عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا ، ولم تبق لهم حجة ولا شبهة ، إلى استعمال قوتهم وسلطانهم ، لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم ، فكادهم الرب جل جلاله ، وأعلى كلمته ودينه وبرهانه ، كما قال تعالى : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين . وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبا من جميع ما يمكنهم من الأماكن ، فمكثوا مدة يجمعون له حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق إبراهيم ، ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب ، وأطلقوا فيه النار فاضطرمت وتأججت والتهبت ، وعلاها شرر لم ير مثله قط حتى إن كانت الطير لتمر بها فتحترق من شدتها وحرها ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له هيزن ، وكان أول من صنع المجانيق فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه ، وهو يقول : لا إله إلا أنت سبحانك ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك . فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيدا مكتوفا ، ثم ألقوه منه إلى النار قال : حسبنا الله ، ونعم الوكيل . كما روى البخاري ، عن ابن عباس أنه قال : حسبنا الله ونعم الوكيل . قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قيل له : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء [ آل عمران : 173 - 174 ] . الآية .
وعن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وسلم : . لما ألقي إبراهيم في النار قال : اللهم إنك في السماء واحد ، وأنا في الأرض واحد أعبدك
وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا . ويروى عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير أنه قال : جعل ملك المطر يقول : متى أومر فأرسل المطر ؟ فكان أمر الله أسرع قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم . قال علي بن أبي طالب أي لا تضريه ، وقال ابن عباس وأبو العالية : لولا أن الله قال : وسلاما على إبراهيم لأذى إبراهيم بردها . وقال كعب الأحبار : لم ينتفع أهل الأرض يومئذ بنار ، ولم يحرق منه سوى وثاقه . وقال الضحاك : يروى أن جبريل عليه السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه لم يصبه منها شيء غيره . وقال السدي : كان معه أيضا ملك الظل . وصار إبراهيم عليه السلام في مثل الجونة حوله النار ، وهو في روضة خضراء ، والناس ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول إليه ، ولا هو يخرج إليهم فعن أبي هريرة أنه قال : أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال : نعم الرب ربك يا إبراهيم .
وروى ابن عساكر ، عن عكرمة : أن أم إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته : يا بني إني أريد أن أجيء إليك ، فادع الله أن ينجيني من حر النار حولك . فقال : نعم . فأقبلت إليه لا يمسها شيء من حر النار ، فلما وصلت إليه اعتنقته ، وقبلته ، ثم عادت . وعن المنهال بن عمرو أنه قال : أخبرت أن إبراهيم مكث هناك إما أربعين ، وإما خمسين يوما ، وأنه قال : ما كنت أياما وليالي أطيب عيشا إذ كنت فيها ، ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها . صلوات الله وسلامه عليه .
فأرادوا أن ينتصروا فخذلوا ، وأرادوا أن يرتفعوا فاتضعوا ، وأرادوا أن يغلبوا فغلبوا قال الله تعالى : وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين . وفي الآية الأخرى : الأسفلين ففازوا بالخسارة والسفال هذا في الدنيا ، وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم بردا ولا سلاما ، ولا يلقون فيها تحية ولا سلاما ، بل هي كما قال تعالى : إنها ساءت مستقرا ومقاما .
ومكث نمرود أياما لا يشك أن النار قد أكلت إبراهيم ، فرأى كأنه نظر فيها وهي تحرق بعضها بعضا وإبراهيم جالس إلى جنبه رجل مثله . فقال لقومه : لقد رأيت كأن إبراهيم حي ولقد شبه علي ، ابنوا لي صرحا يشرف بي على النار ، فبنوا له وأشرف منه فرأى إبراهيم جالسا وإلى جانبه رجل في صورته ، فناداه نمرود : يا إبراهيم ، كبير إلهك الذي بلغت قدرته وعزته أن حال بينك وبين ما أرى ، هل تستطيع أن تخرج منها ؟ قال : نعم . قال : أتخشى إن أقمت فيها أن تضرك ؟ قال : لا . فقام إبراهيم فخرج منها ، فلما خرج قال له : يا إبراهيم ، من الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك ؟ قال : ذلك ملك الظل أرسله إلي ربي ليؤنسني . قال نمرود : إني مقرب من إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته وما صنع بك حين أبيت إلا عبادته .
فقال إبراهيم : إذا لا يقبل الله منك ما كنت على شيء من دينك . فقال : يا إبراهيم ، لا أستطيع ترك ملكي . وقرب أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم ، ومنعه الله منه . وآمن مع إبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله به على خوف من نمرود وملئهم ، وآمن له لوط بن هاران ، وهو ابن أخي إبراهيم ، وكان لهم أخ ثالث يقال له ناخور بن تارخ ، وهو أبو بتويل ، وبتويل أبو لابان وأبو ربقا امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب ، ولابان أبو ليا وراحيل زوجتي يعقوب . وآمنت به سارة ، وهي ابنة عمه ، وهي سارة ابنة هاران الأكبر عم إبراهيم ، وقيل : كانت ابنة ملك حران . فآمنت بالله تعالى مع إبراهيم . وقال أحمد بسنده عن نافع أن امرأة دخلت على عائشة ، فإذا رمح منصوب فقالت : ما هذا الرمح؟ فقالت : نقتل به الأوزاغ ، ثم حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : . أن إبراهيم لما ألقي في النار جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إلا الوزغ فإنه جعل ينفخها عليه