الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وفاة إبراهيم ، وعدد ما أنزل عليه روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف عن أخبار أهل الكتاب في صفة مجيء ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخبارا كثيرة الله أعلم بصحتها . وقيل : لما أراد الله قبض روح إبراهيم أرسل إليه ملك الموت في صورة شيخ هرم ، فرآه إبراهيم وهو يطعم الناس وهو شيخ كبير في الحر ، فبعث إليه بحمار فركبه حتى أتاه ، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه فيدخلها في عينه وأذنه ، ثم يدخلها فاه ، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره ، وكان إبراهيم سأل ربه أن لا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت ، فقال : يا شيخ مالك تصنع هذا ؟ قال : يا إبراهيم الكبر . قال : ابن كم أنت ؟ فزاد على عمر إبراهيم سنتين . فقال إبراهيم : إنما بيني وبين أن أصير هكذا سنتان ، اللهم اقبضني إليك ! فقام الشيخ وقبض روحه ومات وهو ابن مائتي سنة . وقد قيل : إنه مات فجأة . وكذا داود وسليمان والذي ذكره أهل الكتاب وغيرهم خلاف ذلك . قالوا : ثم مرض إبراهيم عليه السلام ومات عن مائة وخمس وسبعين . وهذا عندي فيه نظر لأن إبراهيم لا يخلو أن يكون قد رأى من هو أكبر منه بسنتين أو أكثر من ذلك ، فإن من عاش مائتي سنة كيف لا يرى من هو أكبر منه بهذا القدر القريب ؟ ولكن هكذا روي ، ثم إنه قد بلغ عمر نوح ولم يصبه شيء مما رأى بذلك الرجل . ودفن في المغارة المذكورة عند امرأته سارة التي في مزرعة عفرون الحيثي ، وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

            وقد ورد ما يدل أنه عاش مائتي سنة ، كما قاله ابن الكلبي . وقال أبو حاتم بن حبان في صحيحه بسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اختتن إبراهيم بالقدوم ، وهو ابن عشرين ومائة سنة ، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة . وعن أبي هريرة موقوفا .

            ثم قال ابن حبان : ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن رفع هذا الخبر وهم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اختتن إبراهيم حين بلغ مائة وعشرين سنة ، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة ، واختتن بقدوم . وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : وقد أتت عليه ثمانون سنة . ثم روى ابن حبان ، عن عبد الرزاق أنه قال : القدوم اسم القرية . قلت : الذي في الصحيح أنه اختتن وقد أتت عليه ثمانون سنة ، وفي رواية وهو ابن ثمانين سنة . وليس فيهما تعرض لما عاش بعد ذلك ، والله أعلم .

            وعن أبي هريرة قال : كان إبراهيم أول من تسرول ، وأول من فرق ، وأول من استحد ، وأول من اختتن بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة ، وأول من قرى الضيف ، وأول من شاب . هكذا رواه موقوفا ، وهو أشبه بالمرفوع خلافا لابن حبان ، والله أعلم .

            وعن سعيد بن المسيب قال : كان إبراهيم أول من أضاف الضيف ، وأول الناس اختتن ، وأول الناس قص شاربه ، وأول الناس رأى الشيب ، فقال : يا رب ما هذا ؟ فقال الله : وقار . فقال : يا رب زدني وقارا . وزاد غيرهما : وأول من قص شاربه ، وأول من استحد ، وأول من لبس السراويل ، فقبره وقبر ولده إسحاق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد حبرون ، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم . وهذا متلقى بالتواتر أمة بعد أمة ، وجيلا بعد جيل من زمن بني إسرائيل ، وإلى زماننا هذا أن قبره بالمربعة تحقيقا . فأما تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن معصوم ، فينبغي أن تراعى تلك المحلة ، وأن تحترم احترام مثلها ، وأن تبجل ، وأن تجل أن يداس في أرجائها خشية أن يكون قبر الخليل أو أحد من أولاده الأنبياء عليهم السلام تحتها . وروى ابن عساكر بسنده إلى وهب بن منبه قال : وجد عند قبر إبراهيم الخليل على حجر كتابة خلقة :


            ألهى جهولا أمله يموت من جا أجله     ومن دنا من حتفه
            لم تغن عنه حيله     وكيف يبقى آخره
            من مات عنه أوله     والمرء لا يصحبه
            في القبر إلا عمله

            وروى أبو ذر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : وأنزل الله على إبراهيم عشر صحائف ، قال : قلت : يا رسول الله ، فما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : كانت أمثالا كلها : أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ولو كانت من كافر .

            وكان فيها أمثال ، منها : وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات ، ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يفكر فيها في صنع الله ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم والمشرب . وعلى العاقل أن يكون ظاعنا إلا في ثلاث : تزود لمعاده ، ومرمة لمعاشه ، ولذة في غير محرم ، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه .
            [وسلام على من أكرم الضيف ، ومن أهانه فهو في الدرك الأسفل من النار . قال أبو ذر: فلهذا كان إبراهيم لا يأكل إلا مع الضيف] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية