ثناء الله ورسوله الكريم على عبد الله وخليله إبراهيم
قال الله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [ البقرة : 124 ] . لما وفى ما أمره ربه به من التكاليف العظيمة جعله للناس إماما يقتدون به . ويأتمون بهديه ، وسأل الله أن تكون هذه الإمامة متصلة بسببه وباقية في نسبه وخالدة في عقبه ، فأجيب إلى ما سأل ورام وسلمت إليه الإمامة بزمام ، واستثني من نيلها الظالمون ، واختص بها من ذريته العلماء العاملون ، كما قال تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين [ العنكبوت : 27 ] . وقال تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [ الأنعام : 84 - 87 ] . فالضمير في قوله ومن ذريته عائد على إبراهيم على المشهور ولوط ، وإن كان ابن أخيه إلا أنه دخل في الذرية تغليبا ، وهذا هو الحامل للقائل الآخر أن الضمير على نوح ، كما قدمنا في قصته ، والله أعلم . وقال تعالى : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب [ الحديد : 26 ] . الآية .
فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل فمن ذريته وشيعته ، وهذه خلعة سنية لا تضاهى ، ومرتبة علية لا تباهى ، وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان ؛ إسماعيل من هاجر ، ثم إسحاق من سارة ، وولد لهذا يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه سائر أسباطهم فكانت فيهم النبوة ، وكثروا جدا بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم ، واختصهم بالرسالة والنبوة حتى ختموا بعيسى ابن مريم من بني إسرائيل .
على اختلاف قبائلها ، ولم يوجد من سلالته من الأنبياء سوى خاتمهم على الإطلاق وسيدهم ، وفخر بني آدم في الدنيا ، والآخرة ؛ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي المكي ثم المدني صلوات الله وسلامه عليه ، فلم يوجد من هذا الفرع الشريف والغصن المنيف سوى هذه الجوهرة الباهرة ، والدرة الزاهرة ، وواسطة العقد الفاخرة ، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع ، ويغبطه الأولون والآخرون يوم القيامة . وأما إسماعيل عليه السلام فكانت منه العرب
وقد ثبت عنه في صحيح مسلم ، أنه قال : . فمدح إبراهيم أباه مدحة عظيمة في هذا السياق ، ودل كلامه على أنه أفضل الخلائق بعده عند الخلاق في هذه الحياة الدنيا ويوم يكشف عن ساق . سأقوم مقاما يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم
وقال البخاري بسنده عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ، ويقول : إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق : أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة . ورواه أهل السنن من حديث منصور به . وقال تعالى : وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم [ البقرة : 260 ] . ذكر المفسرون لهذا السؤال أسبابا ، على أربعة أقوال:
أحدها: أنه رأى ميتة تمزقها الهوام والسباع ، فسأل ذلك .
قال ابن عباس: مر إبراهيم برجل ميت على ساحل البحر فرأى دواب البحر وسباع الأرض تأكل منه ، وقال قتادة: مر على دابة ميتة . وقال ابن جريج: مر على جيفة حمار .
وقال ابن يزيد: مر على حوت ميتة .
والثاني: أنه لما بشر بأن الله تعالى قد اتخذه خليلا سأل ذلك ليعلم بإجابته صحة البشارة . رواه السدي عن أشياخه .
والثالث: أنه أحب أن يزيل عوارض الوساوس . وهو مذهب عطاء بن أبي رباح .
والرابع: أنه لما قال: ربي الذي يحيي ويميت أحب أن يرى ما أخبر به عن ربه .
ذكره ابن إسحاق .
وزعم مقاتل بن سليمان أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أن يكون له ولد ، وقبل نزول الصحف عليه ، وهو ابن خمس وسبعين سنة . والحاصل أن الله عز وجل أجابه إلى ما سأل فأمره أن يعمد إلى أربعة من الطيور ، واختلفوا في تعيينها على أقوال ، والمقصود حاصل على كل تقدير ، فأمره أن يمزق لحومهن وريشهن ، ويخلط ذلك بعضه في بعض ، ثم يقسمه قسما ، ويجعل على كل جبل منهن جزءا ففعل ما أمر به ، ثم أمر أن يدعوهن بإذن ربهن ، فلما دعاهن جعل كل عضو يطير إلى صاحبه ، وكل ريشة تأتي إلى أختها حتى اجتمع بدن كل طائر على ما كان عليه ، وهو ينظر إلى قدرة الذي يقول للشيء : كن فيكون فأتين إليه سعيا ليكون أبين له وأوضح لمشاهدته من أن يأتين طيرانا . ويقال : إنه أمر أن يأخذ رءوسهن في يده فجعل كل طائر يأتي فتلقاه رأسه فيتركب على جثته كما كان ، فلا إله إلا الله . وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى علما يقينا لا يحتمل النقيض ، ولكن أحب أن يشاهد ذلك عيانا ، ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين فأجابه الله إلى سؤاله ، وأعطاه غاية مأموله وقد ذكره الله تعالى في القرآن كثيرا في غير ما موضع بالثناء عليه والمدح له ، فقيل : إنه مذكور في خمسة وثلاثين موضعا ، منها خمسة عشر في البقرة وحدها.