الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قال تعالى : يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين [ آل عمران : 65 - 68 ] . ينكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في دعوى كل من الفريقين كون الخليل على ملتهم وطريقتهم ، فبرأه الله منهم وبين كثرة جهلهم وقلة عقلهم في قوله : وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده . أي فكيف يكون على دينكم ، وأنتم إنما شرع لكم ما شرع بعده بمدد متطاولة ؟ ولهذا قال : أفلا تعقلون إلى أن قال : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين . فبين أنه كان على دين الله الحنيف ، وهو القصد إلى الإخلاص ، والانحراف عمدا عن الباطل إلى الحق الذي هو مخالف لليهودية والنصرانية والمشركية ، كما قال تعالى : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون [ البقرة : 130 - 140 ] . فنزه الله عز وجل خليله عليه السلام عن أن يكون يهوديا أو نصرانيا ، وبين أنه إنما كان حنيفا مسلما ولم يكن من المشركين ؛ ولهذا قال تعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه . يعني الذين كانوا على ملته من أتباعه في زمانه ومن تمسك بدينه من بعدهم وهذا النبي يعني محمدا صلى الله عليه وسلم فإن الله شرع له الدين الحنيف الذي شرعه للخليل وكمله الله تعالى له ، وأعطاه ما لم يعط نبيا ولا رسولا قبله ، كما قال تعالى : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [ الأنعام : 161 - 163 ] . وقد قال تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ النحل : 120 - 123 ] .

            وقال البخاري بسنده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت ، ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام ، فقال : قاتلهم الله ، والله إن استقسما بالأزلام قط . لم يخرجه مسلم ، وفي بعض ألفاظ البخاري قاتلهم الله لقد علموا أن شيخنا لم يستقسم بها قط .

            فقوله أمة أي قدوة إماما مهتديا داعيا إلى الخير يقتدى به فيه قانتا لله أي خاشعا له في جميع حالاته وحركاته وسكناته حنيفا أي مخلصا على بصيرة ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه . أي قائما بشكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه وأعماله اجتباه أي اختاره الله لنفسه واصطفاه لرسالته واتخذه خليلا ، وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة . وقال تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا [ النساء : 125 ] . يرغب تعالى في اتباع إبراهيم عليه السلام ؛ لأنه كان على الدين القويم والصراط المستقيم ، وقد قام بجميع ما أمره به ربه ، ومدحه تعالى بذلك فقال : وإبراهيم الذي وفى [ النجم : 37 ] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية