قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد . يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم : أصلواتك هذه التي تصليها هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك ، ونترك ما يعبد آباؤنا الأقدمون وأسلافنا الأولون ، أو أنا لا نتعامل إلا على الوجه الذي ترتضيه أنت ، ونترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها إنك لأنت الحليم الرشيد . قال ابن عباس ، وميمون بن مهران ، وابن جريج ، وزيد بن أسلم ، و ابن جرير : يقولون ذلك - أعداء الله - على سبيل الاستهزاء .
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب . هذا تلطف معهم في العبارة ، ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة يقول لهم : أرأيتم أيها المكذبون إن كنت على بينة من ربي أي على أمر بين من الله تعالى أنه أرسلني إليكم ورزقني منه رزقا حسنا . يعني النبوة والرسالة يعني ، وعمى عليكم معرفتها فأي حيلة لي بكم ؟ وهذا كما تقدم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء .
وقوله : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه . أي لست آمركم بالأمر إلا وأنا أول فاعل له ، وإذا نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه ، وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة وضدها هي المردودة الذميمة ، كما تلبس بها علماء بني إسرائيل في آخر زمانهم ، وخطباؤهم الجاهلون قال الله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون [ البقرة : 44 ] . وذكرنا عندها في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه . أي تخرج أمعاؤه من بطنه فيدور بها ، كما يدور الحمار برحاه فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه . وهذه صفة مخالفي الأنبياء من الفجار والأشقياء ، فأما السادة من النجباء والألباء من العلماء الذين يخشون ربهم بالغيب فحالهم كما قال نبي الله شعيب : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت . أي ما أريد في جميع أمري إلا الإصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي وما توفيقي أي في جميع أحوالي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب . أي عليه أتوكل في سائر الأمور وإليه مرجعي ومصيري في كل أمري ، وهذا مقام ترغيب ، ثم انتقل إلى نوع من الترهيب فقال : ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد . أي لا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم فيحل الله بكم من العذاب والنكال نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم من قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح من المكذبين المخالفين .
وقوله : وما قوم لوط منكم ببعيد . قيل : معناه في الزمان أي ما بالعهد من قدم مما قد بلغكم ما أحل الله بهم على كفرهم ، وعتوهم . وقيل : معناه وما هم منكم ببعيد في المحلة والمكان . وقيل : في الصفات والأفعال المستقبحات من قطع الطريق ، وأخذ أموال الناس جهرة ، وخفية بأنواع الحيل والشبهات . والجمع بين هذه الأقوال ممكن فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زمانا ولا مكانا ولا صفات . ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال : واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود . أي أقلعوا عما أنتم فيه ، وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود فإنه فإنه رحيم بعباده ، أرحم بهم من الوالدة بولدها ودود وهو الحبيب ، ولو بعد التوبة على عبده ، ولو من الموبقات العظام من تاب إليه تاب عليه
. قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا . روي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والثوري أنهم قالوا : كان ضرير البصر . وقد روي في حديث مرفوع أنه بكى من حب الله حتى عمي فرد الله عليه بصره . وقال : يا شعيب أتبكي خوفا من النار أو من شوقك إلى الجنة ؟ فقال : بل من محبتك فإذا نظرت إليك فلا أبالي ماذا يصنع بي . فأوحى الله إليه : هنيئا لك يا شعيب لقائي فلذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي . ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز . وهذا من كفرهم البليغ وعنادهم الشنيع حيث قالوا : ما نفقه كثيرا مما تقول . أي ما نفهمه ولا نتعقله لأنا لا نحبه ولا نريده ، وليس لنا همة إليه ولا إقبال عليه ، وهو كما قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون [ فصلت : 5 ] . وقولهم : وإنا لنراك فينا ضعيفا . أي مضطهدا مهجورا ولولا رهطك أي : قبيلتك وعشيرتك فينا لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله . أي تخافون قبيلتي وعشيرتي وتراعوني بسببهم ، ولا تخافون جنبة الله ، ولا ترعوني لأني رسول الله فصار رهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا . أي جعلتم جانب الله وراء ظهوركم إن ربي بما تعملون محيط . أي هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه محيط بذلك كله ، وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب . وهذا أمر تهديد شديد ووعيد أكيد بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ، ومن يحل عليه الهلاك والبوار من يأتيه عذاب يخزيه . أي في هذه الحياة الدنيا ويحل عليه عذاب مقيم . أي في الأخرى ومن هو كاذب . أي مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر وارتقبوا إني معكم رقيب . وهذا كقوله : وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين . طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه ، فقال : أولو كنا كارهين . أي هؤلاء لا يعودون إليكم اختيارا ، وإنما يعودون إليه إن عادوا اضطرارا مكرهين ، وذلك لأن لا يسخطه أحد ، ولا يريد أحد أن يزول عنه ، ولا محيد لأحد منه . الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب
ولهذا قال : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا . أي فهو كافينا وهو العاصم لنا وإليه ملجؤنا في جميع أمرنا