اختلفوا هل كان نبيا أم لا على قولين: أحدهما: أنه لم يكن نبيا إنما كان عبدا صالحا . قاله أبو موسى الأشعري ، ومجاهد في آخرين . والظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام . وهذا هو المشهور ، وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبيا ، وإنما كان رجلا صالحا وحكما مقسطا عادلا . وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم . ثم اختلف هؤلاء في علة تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رجلا كان يصلي كل يوم مائة صلاة فتوفي فكفل هذا بصلاته ، فسمي ذا الكفل . قاله أبو موسى .
والثاني: أنه تكفل للنبي بقومه أن يكفيه أمرهم وتعهد أن يقضي بينهم بالعدل ففعل ، فسمي ذا الكفل . قاله مجاهد .
والثالث: أن ملكا قتل في يوم ثلاثمائة نبي وفر منه مائة نبي ، فكفلهم ذو الكفل يطعمهم ويسقيهم حتى أفلتوا . فسمي ذا الكفل ، قاله ابن السائب .
والقول الثاني: أنه كان نبيا . قاله الحسن وعطاء وأهل الكتاب . قال عطاء: وإنما سمي بذي الكفل؛ لأن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء: إني أريد أن أقبض روحك ، فاعرض ملكك على بني إسرائيل ، فمن تكفل لك بأنه يصلي الليل لا يفتر ، ويصوم النهار لا يفطر ، ويقضي بين الناس فلا يغضب فارفع ملكك إليه ففعل ذلك ، فقام شاب ، فقال: أنا أتكفل لك بهذا ، فكفل به فوفى .
وحكى بعض علماء السير: أنه كان في زمن ذي الكفل جبار من العماليق فدعاه ذو الكفل إلى الإيمان وضمن له الجنة ، فقال: من كفل لي بذلك ، قال: أنا ، وكتب له كتابا تكفل له بالجنة إن هو آمن . فترك الملك ملكه ولحق بالنساك . فلما مات دفن الكتاب معه ، فبعث الله الكتاب إلى ذي الكفل وأخبره أنه وفى الملك بما ضمن له ، فآمن به مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وتكفل لهم بمثل ما تكفل لملكهم ، فسماه الله تعالى ذا الكفل . وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند ، عن مجاهد أنه قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل . فجمع الناس . فقال : من يتقبل لي بثلاث أستخلفه ؛ يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب ؟ قال : فقام رجل تزدريه العين . فقال : أنا . فقال : أنت تصوم النهار ، وتقوم الليل ، ولا تغضب ؟ قال : نعم . قال : فردهم ذلك اليوم . وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس ، وقام ذلك الرجل ، فقال : أنا . فاستخلفه ، قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان . فأعياهم ذلك ، فقال : دعوني وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم . قال : فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه . فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا ، وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح ، وذهبت القائلة . وقال : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك فانطلق ، وراح فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره ، فقام يتبعه ، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس ، وينتظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب . فقال : من هذا ؟ فقال : الشيخ الكبير المظلوم ففتح له . فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ؟ فقال : إنهم أخبث قوم ، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا : نحن نعطيك حقك . وإذا قمت جحدوني ، قال : فانطلق فإذا رحت فأتني . قال : ففاتته القائلة فراح فجعل ينتظر فلا يراه ، وشق عليه النعاس . فقال : لبعض أهله لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق علي النوم ، فلما كان تلك الساعة جاء ، فقال له الرجل : وراءك ، وراءك . فقال : إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري . فقال : لا ، والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه ، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدق الباب من داخل قال : فاستيقظ الرجل . فقال : يا فلان ألم آمرك ؟ قال : أما من قبلي ، والله لم تؤت فانظر من أين أتيت ؟ قال : فقام إلى الباب فإذا هو مغلق ، كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في البيت فعرفه . فقال : أعدو الله ؟ قال : نعم . أعييتني في كل شيء ، ففعلت ما ترى لأغضبك فسماه الله ذا الكفل ؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به . وأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر قال : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرار ، ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال : . ورواه الترمذي من حديث الأعمش به . وقال حسن . وذكر أن بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر فهو حديث غريب جدا ، وفي إسناده نظر فإن سعدا هذا قال أبو حاتم : لا أعرفه إلا بحديث واحد . ووثقه ابن حبان . ولم يرو عنه سوى عبد الله بن عبد الله الرازي هذا . فالله أعلم . وإن كان محفوظا فليس هو ذا الكفل . وإنما لفظ الحديث " الكفل " من غير إضافة فهو رجل آخر غير المذكور في القرآن الكريم . والله أعلم بالصواب . كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله ، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها ، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت ، وبكت فقال لها ما يبكيك أكرهتك . قالت : لا ، ولكن هذا عمل لم أعمله قط ، وإنما حملتني عليه الحاجة . قال : فتفعلين هذا ، ولم تفعليه قط ؟ ثم نزل . فقال : اذهبي بالدنانير لك ، ثم قال : والله لا يعصي الله الكفل أبدا . فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله للكفل