الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            اختلفوا هل كان نبيا أم لا على قولين: أحدهما: أنه لم يكن نبيا إنما كان عبدا صالحا . قاله أبو موسى الأشعري ، ومجاهد في آخرين . والظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام . وهذا هو المشهور ، وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبيا ، وإنما كان رجلا صالحا وحكما مقسطا عادلا . وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم . ثم اختلف هؤلاء في علة تسميته بذي الكفل على ثلاثة أقوال:

            أحدها: أن رجلا كان يصلي كل يوم مائة صلاة فتوفي فكفل هذا بصلاته ، فسمي ذا الكفل . قاله أبو موسى .

            والثاني: أنه تكفل للنبي بقومه أن يكفيه أمرهم وتعهد أن يقضي بينهم بالعدل ففعل ، فسمي ذا الكفل . قاله مجاهد .

            والثالث: أن ملكا قتل في يوم ثلاثمائة نبي وفر منه مائة نبي ، فكفلهم ذو الكفل يطعمهم ويسقيهم حتى أفلتوا . فسمي ذا الكفل ، قاله ابن السائب .

            والقول الثاني: أنه كان نبيا . قاله الحسن وعطاء وأهل الكتاب . قال عطاء: وإنما سمي بذي الكفل؛ لأن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء: إني أريد أن أقبض روحك ، فاعرض ملكك على بني إسرائيل ، فمن تكفل لك بأنه يصلي الليل لا يفتر ، ويصوم النهار لا يفطر ، ويقضي بين الناس فلا يغضب فارفع ملكك إليه ففعل ذلك ، فقام شاب ، فقال: أنا أتكفل لك بهذا ، فكفل به فوفى .

            وحكى بعض علماء السير: أنه كان في زمن ذي الكفل جبار من العماليق فدعاه ذو الكفل إلى الإيمان وضمن له الجنة ، فقال: من كفل لي بذلك ، قال: أنا ، وكتب له كتابا تكفل له بالجنة إن هو آمن . فترك الملك ملكه ولحق بالنساك . فلما مات دفن الكتاب معه ، فبعث الله الكتاب إلى ذي الكفل وأخبره أنه وفى الملك بما ضمن له ، فآمن به مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وتكفل لهم بمثل ما تكفل لملكهم ، فسماه الله تعالى ذا الكفل . وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند ، عن مجاهد أنه قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل . فجمع الناس . فقال : من يتقبل لي بثلاث أستخلفه ؛ يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب ؟ قال : فقام رجل تزدريه العين . فقال : أنا . فقال : أنت تصوم النهار ، وتقوم الليل ، ولا تغضب ؟ قال : نعم . قال : فردهم ذلك اليوم . وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس ، وقام ذلك الرجل ، فقال : أنا . فاستخلفه ، قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان . فأعياهم ذلك ، فقال : دعوني وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم . قال : فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه . فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا ، وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح ، وذهبت القائلة . وقال : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك فانطلق ، وراح فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره ، فقام يتبعه ، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس ، وينتظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدق الباب . فقال : من هذا ؟ فقال : الشيخ الكبير المظلوم ففتح له . فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ؟ فقال : إنهم أخبث قوم ، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا : نحن نعطيك حقك . وإذا قمت جحدوني ، قال : فانطلق فإذا رحت فأتني . قال : ففاتته القائلة فراح فجعل ينتظر فلا يراه ، وشق عليه النعاس . فقال : لبعض أهله لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق علي النوم ، فلما كان تلك الساعة جاء ، فقال له الرجل : وراءك ، وراءك . فقال : إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري . فقال : لا ، والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه ، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدق الباب من داخل قال : فاستيقظ الرجل . فقال : يا فلان ألم آمرك ؟ قال : أما من قبلي ، والله لم تؤت فانظر من أين أتيت ؟ قال : فقام إلى الباب فإذا هو مغلق ، كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في البيت فعرفه . فقال : أعدو الله ؟ قال : نعم . أعييتني في كل شيء ، ففعلت ما ترى لأغضبك فسماه الله ذا الكفل ؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به . وأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر قال : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عد سبع مرار ، ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال : كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله ، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها ، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت ، وبكت فقال لها ما يبكيك أكرهتك . قالت : لا ، ولكن هذا عمل لم أعمله قط ، وإنما حملتني عليه الحاجة . قال : فتفعلين هذا ، ولم تفعليه قط ؟ ثم نزل . فقال : اذهبي بالدنانير لك ، ثم قال : والله لا يعصي الله الكفل أبدا . فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله للكفل . ورواه الترمذي من حديث الأعمش به . وقال حسن . وذكر أن بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر فهو حديث غريب جدا ، وفي إسناده نظر فإن سعدا هذا قال أبو حاتم : لا أعرفه إلا بحديث واحد . ووثقه ابن حبان . ولم يرو عنه سوى عبد الله بن عبد الله الرازي هذا . فالله أعلم . وإن كان محفوظا فليس هو ذا الكفل . وإنما لفظ الحديث " الكفل " من غير إضافة فهو رجل آخر غير المذكور في القرآن الكريم . والله أعلم بالصواب .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية