ذكر ما جرى له مع بلقيس
نسب بلقيس وملكها
نذكر أولا ما قيل في نسبها وملكها ، ثم ما جرى له معها ، فنقول قد اختلف العلماء في اسم آبائها ، فقيل : إنها هي بلقمة ابنة ليشرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وقيل : هي بلقمة ابنة هادد ، واسمه ليشرح بن تبع ذي الأذعار بن تبع ذي المنار بن تبع الرايش ، وقيل في نسبها غير ذلك لا حاجة إلى ذكره .
وقد اختلف الناس في التبابعة وتقديم بعضهم على بعض وزيادة في عددهم ونقصان ، اختلافا لا يحصل الناظر فيه على طائل ، وكذا أيضا اختلفوا في نسبها اختلافا كثيرا ، وقال كثير من الرواة : إن أمها جنية ابنة ملك الجن واسمها رواحة بنت السكن . وقيل : اسم أمها يلقمة بنت عمرو بن عمير الجني ، وإنما نكح أبوها إلى الجن لأنه قال : ليس في الإنس لي كفوة ، فخطب إلى الجن فزوجوه .
واختلفوا في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب إليهم فقيل : إنه كان لهجا بالصيد ، فربما اصطاد الجن على صور الظباء فيخلي عنهن فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقا ، فخطب ابنته ، فأنكحه على أن يعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن ، وقيل : إن أباها خرج يوما متصيدا فرأى حيتين تقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فأمر بقتل السوداء ، وحمل البيضاء وصب عليها الماء ، فأفاقت ، فأطلقها وعاد إلى داره وجلس منفردا ، وإذا معه شاب جميل ، فذعر منه ، فقال له : لا تخف أنا الحية التي أنجيتني ، والأسود الذي قتلته غلام لنا تمرد علينا وقتل عدة من أهل بيتي ، وعرض عليه المال وعلم الطب ، فقال : أما المال فلا حاجة لي به ، وأما الطب فهو قبيح بالملك ، ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها ، فزوجه على شرط أن لا يغير عليها شيئا تعمله ومتى غير عليها فارقته ، فأجابه إلى ذلك ، فحملت منه فولدت له غلاما فألقته في النار فجزع لذلك وسكت للشرط ، ثم حملت منه فولدت جارية فألقتها إلى كلبة فأخذتها ، فعظم ذلك عليه وصبر للشرط ، ثم إنه عصى عليه بعض أصحابه فجمع عسكره فسار إليه ليقاتله وهي معه ، فانتهى إلى مفازة ، فلما توسطها رأى جميع ما معهم من الزاد يخلط بالتراب ، وإذا الماء يصب من القرب والمزاود . فأيقنوا بالهلاك وعلموا أنه من فعال الجن عن أمر زوجته فضاق ذرعا عن حمل ذلك ، فأتاها وجلس وأومأ إلى الأرض وقال : يا أرض ، صبرت لك على إحراق ابني وإطعام الكلبة ابنتي ، ثم أنت الآن قد فجعتنا بالزاد والماء وقد أشرفنا على الهلاك !
فقالت المرأة : لو صبرت لكان خيرا لك ، وسأخبرك : إن عدوك خدع وزيرك فجعل السم في الأزواد والمياه ليقتلك وأصحابك ، فمر وزيرك ليشرب من الماء ويأكل من الزاد ، فأمره فامتنع ، فقتله ، ودلتهم على الماء والميرة من قريب وقالت : أما ابنك فدفعته إلى حاضنة تربيه وقد مات ، وأما ابنتك فهي باقية ، وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض ، وهي بلقيس ، وفارقته امرأته وسار إلى عدوه فظفر به .
وقيل في سبب نكاحه إليهم غير ذلك ، والجميع حديث خرافة لا أصل له ولا حقيقة .
وأما ملكها اليمن فقيل : إن أباها فوض إليها الملك فملكت بعده ، وقيل : بل مات عن غير وصية بالملك لأحد فأقام الناس ابن أخ له ، وكان فاحشا خبيثا فاسقا لا يبلغه عن بنت قيل ولا ملك ذات جمال إلا أحضرها وفضحها ، حتى انتهى إلى بلقيس بنت عمه ، فأراد ذلك منها فوعدته أن يحضر عندها إلى قصرها وأعدت له رجلين من أقاربها وأمرتهما بقتله إذا دخل إليها وانفرد بها ، فلما دخل إليها وثبا عليه فقتلاه . فلما قتل أحضرت وزراءه فقرعتهم ، فقالت : أما كان فيكم من يأنف لكريمته ، وكرائم عشيرته ! ثم أرتهم إياه قتيلا ، وقالت : اختاروا رجلا تملكونه . فقالوا : لا نرضى بغيرك ، فملكوها .
وقيل : إن أباها لم يكن ملكا ، وإنما كان وزير الملك ، وكان الملك خبيثا ، قبيح السيرة يأخذ بنات الأقيال ، والأعيان ، والأشراف ، وإنها قتلته ، فملكها الناس عليهم .
وكذلك أيضا عظموا ملكها وكثرة جندها فقيل : كان تحت يدها أربعمائة ملك ، كل ملك منهم على كورة ، مع كل ملك منهم أربعة آلاف مقاتل ، وكان لها ثلاثمائة وزير يتدبرون ملكها ، وكان لها اثنا عشر قائدا يقود كل قائد منهم اثني عشر ألف مقاتل .
وبالغ آخرون مبالغة تدل على سخف عقولهم وجهلهم ، قالوا : كان لها اثنا عشر ألف قيل ، تحت يد كل قيل مائة ألف مقاتل ، مع كل مقاتل سبعون ألف جيش ، في كل جيش سبعون ألف مبارز ، ليس فيهم إلا أبناء خمس وعشرين سنة . وما أظن الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب حتى يعلم مقدار جهله ، ولو عرف مبلغ العدد لأقصر عن إقدامه على هذا القول السخيف ، فإن أهل الأرض لا يبلغون جميعهم ، شبابهم وشيوخهم ، وصبيانهم ونساؤهم هذا العدد ، فكيف أن يكونوا أبناء خمس وعشرين سنة ! فيا ليت شعري كم يكون غيرهم ممن ليس من أسنانهم ، وكم تكون الرعية وأرباب الحرف والفلاحة وغير ذلك ، وإنما الجند بعض أهل البلاد ، وإن كان الحاصل من اليمن قد قل في زماننا فإن رقعة أرضه لم تصغر ، وهي لا تسع هذا العدد قياما كل واحد إلى جانب الآخر .
ثم إنهم قالوا : أنفقت على كوة بيتها التي تدخل الشمس منها فتسجد لها ثلاثمائة ألف أوقية من الذهب ، وقالوا غير ذلك ، وذكروا من أمر عرشها ما يناسب كثرة جيشها ، فلا نطول بذكره . وقد تواطئوا على الكذب والتلاعب بعقول الجهال واستهانوا بما يلحقهم من استجهال العقلاء لهم ، وإنما ذكرنا هذا على قبحه ليقف بعض من كان يصدق به عليه فينتهي إلى الحق .
عمل الهدهد وغيابه عن سليمان عليه السلام
وأما سبب مجيئها إلى سليمان وإسلامها فإنه طلب الهدهد فلم يره ، وإنما طلبه لأن الهدهد يرى الماء من تحت الأرض فيعلم هل في تلك الأرض ماء أم لا ، وهل هو قريب أم بعيد ، فبينما سليمان في بعض مغازيه احتاج إلى الماء فلم يعلم أحد ممن معه بعده ، فطلب الهدهد ليسأله عن ذلك فلم يره . وقيل : بل نزلت الشمس إلى سليمان ، فنظر ليرى من أين نزلت لأن الطير كانت تظله ، فرأى موضع الهدهد فارغا ، فقال : لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين .
وكان الهدهد قد مر على قصر بلقيس فرأى بستانا لها خلف قصرها ، فمال إلى الخضرة ، فرأى فيه هدهدا فقال له : أين أنت عن سليمان وما تصنع ههنا ؟ فقال له : ومن سليمان ؟ فذكر له حاله وما سخر له من الطير وغيره ، فعجب من ذلك . فقال له هدهد سليمان : وأعجب من ذلك أن كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم . وجعلوا الشكر لله أن سجدوا للشمس من دونه ، وكان عرشها سريرا من ذهب ، مكلل بالجواهر النفيسة من اليواقيت والزبرجد واللؤلؤ .
كتاب سليمان عليه السلام إلى بلقيس
ثم إن الهدهد عاد إلى سليمان فأخبره بعذره في تأخيره ، فقال له : اذهب بكتابي هذا فألقه إليها ، فوافاها وهي في قصرها فألقاه في حجرها ، فأخذته وقرأته ، وأحضرت قومها وقالت : إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ياأيها الملأ . . . . ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون
قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين .
إرسال بلقيس هدية إلى سليمان عليه السلام
قالت وإني مرسلة إليهم بهدية فإن قبلها فهو من ملوك الدنيا فنحن أعز منه وأقوى ، وإن لم يقبلها فهو نبي من الله .
فلما جاءت الهدية إلى سليمان قال للرسل : أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم - إلى قوله - : وهم صاغرون ، فلما رجع الرسل إليها سارت إليه وأخذت معها الأقيال من قومها ، وهم القواد ، وقدمت عليه .
عرش بلقيس
فلما قاربته وصارت منه على نحو فرسخ قال لأصحابه : أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ، يعني قبل أن تقوم في الوقت الذي تقصد فيه بيتك للغداء . قال سليمان : أريد أسرع من ذلك . فـ قال الذي عنده علم من الكتاب - وهو آصف بن برخيا ، وكان يعرف اسم الله الأعظم - أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ، وقال له انظر إلى السماء وأدم النظر فلا ترد طرفك حتى أحضره عندك . وسجد ودعا ، فرأى سليمان العرش قد نبع من تحت سريره ، فقال : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر إذ أتاني به قبل أن يرتد إلي طرفي أم أكفر إذ جعل تحت يدي من هو أقدر مني على إحضاره .
فلما جاءت قيل : أهكذا عرشك قالت كأنه هو ولقد تركته في حصون وعنده جنود تحفظه فكيف جاء إلى ههنا ؟
بناء صرح تدخل منه بلقيس
فقال سليمان للشياطين : ابنوا لي صرحا تدخل علي فيه بلقيس . فقال بعضهم : إن سليمان قد سخر له ما سخر وبلقيس ملكة سبإ ينكحها فتلد غلاما فلا ننفك من العبودية أبدا ، وكانت امرأة شعراء الساقين ، فقال للشياطين : ابنوا له بنيانا يرى ذلك منها فلا يتزوجها ، فبنوا له صرحا من قوارير خضر وجعلوا له طوابيق من قوارير بيض ، فبقي كأنه الماء ، وجعلوا تحت الطوابيق صور دواب البحر من السمك وغيره ، وقعد سليمان على كرسي ، ثم أمر فأدخلت بلقيس عليه ، فلما أرادت أن تدخله ورأت صور السمك ودواب الماء حسبته لجة ماء فكشفت عن ساقيها لتدخل ، فلما رآها سليمان صرف نظره عنها وقال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين .
أول ما عملت النورة
فاستشار سليمان في شيء يزيل الشعر ولا يضر الجسد ، فعمل له الشياطين النورة ، فهي أول ما عملت النورة .
زواج سليمان عليه السلام من بلقيس
ونكحها سليمان وأحبها حبا شديدا وردها إلى ملكها باليمن ، فكان يزورها كل شهر مرة يقيم عندها ثلاثة أيام .
وقيل : إنه أمرها أن تنكح رجلا من قومها فامتنعت وأنفت من ذلك فقال : لا يكون في الإسلام إلا ذلك . فقالت : إن كان لا بد من ذلك فزوجني ذا تبع ملك همدان ، فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن ، وسلط زوجها ذا تبع على الملك ، وأمر الجن من أهل اليمن بطاعته ، فاستعملهم ذو تبع ، فعملوا له عدة حصون باليمن ، منها سلحين ، ومراوح ، وفليون ، وهنيدة ، وغيرها ، فلما مات سليمان لم يطيعوا ذا تبع وانقضى ملك ذي تبع ، وملك بلقيس مع ملك سليمان .
وفاة بلقيس
وقيل : إن بلقيس ماتت قبل سليمان بالشام وإنه دفنها بتدمر ، وأخفى قبرها .