وقد روى أبو نعيم من طريق إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله يريد المدينة ، قال : " الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا ، اللهم أعني على هول الدنيا ، وبوائق الدهر ، ومصائب الليالي والأيام ، اللهم اصحبني في سفري ، واخلفني في أهلي ، وبارك لي فيما رزقتني ، ولك فذللني ، وعلى صالح خلقي فقومني ، وإليك رب فحببني ، وإلى الناس فلا تكلني ، رب المستضعفين ، وأنت ربي أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض ، وكشفت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين ، أن تحل علي غضبك ، وتنزل بي سخطك ، أعوذ بك من زوال نعمتك ، وفجأة نقمتك ، وتحول عافيتك ، وجميع سخطك ، لك العتبى عندي خير ما استطعت ، لا حول ولا قوة إلا بك " .
قال ابن إسحاق : . وسيأتي في سياق البخاري ما يشهد لهذا . ثم عمدا إلى غار بثور - جبل بأسفل مكة - فدخلاه ، وأمر أبو بكر الصديق ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر ، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ، ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار . فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم ، يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر ، وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة ، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا ، فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفي عليه
وقد حكى ابن جرير عن بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الصديق في الذهاب إلى غار ثور ، وأمر عليا أن يدله على مسيره ليلحقه ، فلحقه في أثناء الطريق . وهذا غريب جدا ، وخلاف المشهور من أنهما خرجا معا .
قال ابن إسحاق : وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما . قالت أسماء : ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام ، فوقفوا على باب أبي بكر ، فخرجت إليهم ، فقالوا : أين أبوك يا ابنة أبي بكر ؟ قالت : قلت : لا أدري والله أين أبي ؟ قالت : فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشا خبيثا - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ، ثم انصرفوا .
قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، أن أباه حدثه عن جدته أسماء ، قالت : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه ، احتمل أبو بكر ماله كله ، معه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم ، فانطلق بها معه . قالت : فدخل علينا جدي أبو قحافة - وقد ذهب بصره - فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه . قالت : قلت : كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا . قالت : وأخذت أحجارا ، فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ، ثم وضعت عليها ثوبا ، ثم أخذت بيده ، فقلت : يا أبت ضع يدك على هذا المال . قالت : فوضع يده عليه ، فقال : لا بأس إذ كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفي هذا بلاغ لكم . ولا والله ما ترك لنا شيئا ، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك .
وقال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم ، أن الحسن بن أبي الحسن البصري قال : انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا ، فدخل أبو بكر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمس الغار; لينظر أفيه سبع أو حية ، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه . وهذا فيه انقطاع من طرفيه .
وقد قال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن عمرو الضبي ، ثنا نافع بن عمر الجمحي ، عن ابن أبي مليكة ،أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور ، فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة ، وخلفه مرة ، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك ، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك ، حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور ، قال أبو بكر : كما أنت حتى أدخل يدي فأحسه وأقصه ، فإن كانت فيه دابة أصابتني قبلك . قال نافع : فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر ، تخوفا أن يخرج منه دابة أو شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا مرسل وقد ذكرنا له شواهد أخر في سيرة الصديق رضي الله عنه .
وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق ، أنا موسى بن الحسن بن عباد ، ثنا عفان بن مسلم ، ثنا السري بن يحيى ، ثنا محمد بن سيرين ، قال : ذكر رجال على عهد عمر ، فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر ، فبلغ ذلك عمر ، فقال : والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر ، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر ، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ، ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا أبا بكر ، ما لك تمشي ساعة بين يدي ، وساعة خلفي " . فقال : يا رسول الله ، أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك . فقال : " يا أبا بكر ، لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني ؟ " قال : نعم والذي بعثك بالحق . فلما انتهينا إلى الغار ، قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار . فدخل فاستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ، ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة ، فقال : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ . فدخل فاستبرأ ، ثم قال : انزل يا رسول الله . فنزل . ثم قال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر .
وقد رواه البيهقي من وجه آخر عن عمر ، وفيه أن أبا بكر جعل يمشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ، وخلفه أخرى ، وعن يمينه ، وعن شماله . وفيه أنه لما حفيت رجلا رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله الصديق على كاهله ، وأنه لما دخل الغار سدد تلك الجحرة كلها ، وبقي منها جحر واحد ، فألقمه كعبه ، فجعلت الأفاعي تنهشه ودموعه تسيل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحزن إن الله معنا " . وفي هذا السياق غرابة ونكارة .
ثم قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو سعيد ابن أبي عمرو ، قالا : ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا عباس الدوري ، ثنا أسود بن عامر شاذان ، ثنا إسرائيل ، عن الأسود ، عن جندب بن عبد الله قال : فأصاب يده حجر ، فقال : كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار
إن أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
طلب قريش للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي في " مسند أبي بكر " : حدثنا بشار الخفاف ، ثنا جعفر بن سليمان ، ثنا أبو عمران الجوني ، حدثنا المعلى بن زياد ، عن الحسن البصري ، قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ، وجاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت ، قالوا : لم يدخل أحد . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي وأبو بكر يرتقب ، فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم : هؤلاء قومك يطلبونك ، أما والله ما على نفسي أبكي ، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر ، لا تخف إن الله معنا " . وهذا مرسل عن الحسن ، وهو حسن بحاله من الشاهد . وفيه زيادة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ، وقد كان ، عليه السلام ، إذا حزبه أمر صلى . وروى هذا الرجل - أعني أبا بكر أحمد بن علي القاضي - عن عمرو الناقد ، عن خلف بن تميم ، عن موسى بن مطير ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وقد نظم بعضهم هذا في شعره حيث يقول : أن أبا بكر قال لابنه : يا بني ، إذا حدث في الناس حدث ، فأت الغار الذي اختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكن فيه; فإنه سيأتيك رزقك فيه بكرة وعشيا .نسج داود ما حمى صاحب الغا ر وكان الفخار للعنكبوت
فغمى عليه العنكبوت بنسجه وظل على الباب الحمام يبيض
وقد روى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم ، عن أبيه أن الذي اقتفى لهم الأثر كرز بن علقمة .
قلت : ويحتمل أن يكونا جميعا اقتفيا الأثر . والله أعلم . وقد قال الله تعالى : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم [ التوبة : 40 ] يقول تعالى مؤنبا لمن تخلف عن الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا تنصروه أنتم فإن الله ناصره ، ومؤيده ، ومظفره ، كما نصره إذ أخرجه الذين كفروا من أهل مكة هاربا ليس معه غير صاحبه ، وصديقه أبي بكر ، ليس معه غيره; ولهذا قال : ثاني اثنين إذ هما في الغار أي : وقد لجأ إلى الغار ، فأقاما فيه ثلاثة أيام ليسكن الطلب عنهما; وذلك لأن المشركين حين فقدوهما كما تقدم ، ذهبوا في طلبهما كل مذهب من سائر الجهات ، وجعلوا لمن ردهما أو أحدهما مائة من الإبل ، واقتصوا آثارهما حتى اختلط عليهم ، وكان الذي يقتص الأثر لقريش سراقة بن مالك بن جعشم ، كما تقدم ، فصعدوا الجبل الذي هما فيه ، وجعلوا يمرون على باب الغار ، فتحاذي أرجلهم لباب الغار ولا يرونهما; حفظا من الله لهما ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، ثنا همام ، أنا ثابت ، عن أنس بن مالك ، وأخرجه البخاري ومسلم في " صحيحيهما " من حديث همام به . وقد ذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أن أبا بكر حدثه ، قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . فقال : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما . " لو جاءونا من هاهنا لذهبنا من هنا " . فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر ، وإذا البحر قد اتصل به ، وسفينة مشدودة إلى جانبه . وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة ، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف ، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا ، ولكن ما صح أو حسن سنده قلنا به . والله أعلم .
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الفضل بن سهل ، ثنا خلف بن تميم ، ثنا موسى بن مطير القرشي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، ثم قال البزار : لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم . أن أبا بكر قال : لابنه : يا بني إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذي رأيتني اختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكن فيه فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية .
قلت : وموسى بن مطير هذا ضعيف متروك ، كذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه . والله أعلم . وقد ذكر يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، أن الصديق قال في دخولهما الغار ، وسيرهما بعد ذلك ، وما كان من قصة سراقة ، كما سيأتي ، شعرا فمنه قوله :
قال النبي ولم أجزع يوقرني ونحن في سدف من ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا وقد توكل لي منه بإظهار