وكان لكلثوم بن الهدم مربد ، والمربد الموضع الذي يبسط فيه التمر ليجف ، فأخذه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسسه وبناه مسجدا . وفي الصحيح عن عروة : « فلبث في بني عمرو بن عوف وأسس المسجد الذي أسس على التقوى» . وفي رواية عبد الرزاق عنه قال : «الذين بني فيهم المسجد الذي أسس على التقوى» هم بنو عمرو بن عوف وكذا عند ابن عائذ ولفظه : «ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه ثم بناه بنو عمرو بن عوف فهو الذي أسس على التقوى» .
وروى يونس بن بكير في زيادات المغازي عن المسعودي عن الحكم بن عتيبة- بضم العين المهملة وفتح الفوقية وسكون التحتية وبالموحدة- قال : أول من بنى مسجدا- روى الحافظ والسيد- يعني لعامة المسلمين أو للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وهو في التحقيق أول مسجد صلى فيه بأصحابه جماعة ظاهرا ، وإن كان قد بني غيره من المساجد ، فقد روى ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله عنه قال : لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا النبي صلى الله عليه وسلم سنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة ، ولذا قيل : كان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار بقباء قد بنوا مسجدا يصلون فيه ، يعني هذا المسجد ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وورد قباء صلى بهم فيه إلى بيت المقدس ، ولم يحدث فيه شيئا أي في أول الأمر لأن ابن شبة- بالشين المعجمة لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بقباء قال عمار بن ياسر : «ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه» . فجمع حجارة فبنى مسجد قباء فهو
والموحدة المشددة المفتوحتين- روى ذلك ، ثم
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء ، وقدم القبلة إلى موضعها اليوم وقال : «جبريل يؤم بي البيت» .
وروى الطبراني عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : لما سأل أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني لهم مسجدا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليقم بعضكم فيركب الناقة ، فقام أبو بكر رضي الله عنه فركبها فحركها فلم تنبعث فرجع فقعد فقام عمر رضي الله عنه فركبها فلم تنبعث فرجع فقعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «ليقم بعضكم فيركب الناقة» ، فقام علي رضي الله عنه ، فلما وضع رجله في غرز الركاب وثبت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أرخ زمامها وابنوا على مدارها فإنها مأمورة» .
وروى الطبراني بسند رجاله ثقات عن الشموس- بفتح الشين المعجمة- بنت النعمان رضي الله عنها قالت : «نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد : مسجد قباء ، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر ، وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته فيأتي الرجل من أصحابه ويقول : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أعطني أكفك ، فيقول : «لا خذ مثله» ، حتى أسسه ، ويقول : «إن جبريل عليه السلام هو يؤم الكعبة» قالت : فكان يقال : إنه أقوم مسجد قبلة .
قال السيد : «قد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبل بيت المقدس حتى نسخ ذلك وجاء نقباؤهم في صلاة الصبح فأخبرهم وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ، فيحتمل أن جبريل عليه السلام كان يؤم [به] البيت ليستدل به على جهة بيت المقدس لتقابل الجهتين ويعلمه بما يؤول إليه الأمر من استقبال الكعبة . أو أنه صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في ابتداء الهجرة في التوجه إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة ، كما قاله الربيع ، فأم به جبريل البيت لذلك ، سبب استقبال بيت المقدس أولا لاستمالة اليهود أو أن واختياره الصلاة لبيت المقدس أولا ثم نسخ بالكعبة كما قاله القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من أن القبلة نسخت مرتين ، أو أن ذلك تأسيس آخر غير التأسيس الأول . ويدل على هذا ما قدمناه من رواية ابن شبة» . استقبال الكعبة كان مشروعا في ذلك الوقت ثم نسخ ببيت المقدس
وروى ابن شبة أيضا أن عبد الله بن رواحة كان يقول وهم يبنون في مسجد قباء : «أفلح من يعمر المساجدا» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المساجدا» ، فقال عبد الله : «ويقرأ القرآن قائما وقاعدا» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وقاعدا» فقال عبد الله : «ولا يبيت الليل عنه راقدا» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «راقدا» .