الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            وقد شرفت المدينة أيضا بهجرته عليه السلام إليها ، وصارت كهفا لأولياء الله وعباده الصالحين ، ومعقلا وحصنا منيعا للمسلمين ، ودار هدى للعالمين ، والأحاديث في فضلها كثيرة جدا لها موضع آخر نوردها فيه إن شاء الله .

            وقد ثبت في " الصحيحين " من طريق خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن يساف ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الإيمان ليأرز إلى المدينة ، كما تأرز الحية إلى جحرها " . ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع ، عن شبابة ، عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .

            وفي " الصحيحين " أيضا من حديث مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أنه سمع أبا الحباب سعيد بن يسار ، سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت بقرية تأكل القرى ، يقولون : يثرب . وهي المدينة ، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد " . وقد انفرد الإمام مالك عن بقية الأئمة الأربعة بتفضيلها على مكة .

            وقد قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني أبو الوليد وأبو بكر بن عبد الله ، قالا : ثنا الحسن بن سفيان ، ثنا أبو موسى الأنصاري ، ثنا سعيد بن سعيد ، حدثني أخي ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي ، فأسكني أحب البلاد إليك " . فأسكنه الله المدينة . وهذا حديث غريب جدا .

            والمشهور عن الجمهور أن مكة أفضل من المدينة ، إلا المكان الذي ضم جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد استدل الجمهور على ذلك بأدلة يطول ذكرها هاهنا ، ومحلها في كتاب المناسك من " الأحكام " إن شاء الله تعالى .

            وأشهر دليل لهم في ذلك ، ما قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، ثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن عبد الله بن عدي بن الحمراء أخبره ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول : " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " . . تنبيه : قال سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام : "معنى التفضيل بين مكة والمدينة أن ثواب العمل في إحداهما أكثر من ثواب العمل في الأخرى ، فيشكل قول القاضي :

            "أجمعت الأمة على أن موضع القبر الشريف أفضل" ، إذ لا يمكن لأحد أن يعبد الله فيه . وأجاب غيره بأن التفضيل في ذلك للمجاورة ، ولذا حرم على المحدث مس جلد المصحف ، لا لكثرة الثواب ، وإلا فلا يكون جلد المصحف بل ولا المصحف أفضل من غيره لتعذر العمل فيه . وقال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي : قد يكون التفضيل بكثرة الثواب ، وقد يكون لأمر آخر ، وإن لم يكن عملا ، فإن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة ، وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه ، وليس ذلك لمكان غيره ، فكيف لا يكون أفضل الأماكن؟ وليس محل عمل لنا ، فهذا معنى غير تضعيف الأعمال فيه ، وأيضا فباعتبار ما قيل : أن كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه ، [وأيضا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيها ، باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم حي وأن أعماله مضاعفة] أكثر من كل أحد ، فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن .

            قال السيد : " [وهذا من النفاسة بمكان على أني أقول] الرحمات والبركات النازلة بذلك المحل يعم فيضها الأمة ، وهي غير متناهية لدوام ترقياته صلى الله عليه وسلم [وما تناله الأمة بسبب نبيها هو الغاية في الفضل ، ولذا كانت خير أمة بسبب كون نبيها خير الأنبياء ، فكيف لا يكون القبر الشريف أفضل البقاع مع كونه] منبع فيض الخيرات ، [ألا ترى أن الكعبة على رأي من] منع الصلاة فيها ليست محل عملنا؟ أفيقول عاقل بتفضيل المسجد حولها عليها لأنه محل العمل ، مع أن الكعبة هي السبب في إنالة تلك الخيرات؟ وسيأتي أن المجيء المذكور في قوله تعالى : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك [النساء 64] الآية ، حاصل بالمجيء إلى قبره الشريف ، وكذا زيارته صلى الله عليه وسلم ، وسؤال الشفاعة منه ، والتوسل به إلى الله ، والمجاورة عنده من أفضل القربات ، وعنده تجاب الدعوات أيضا ، فكيف لا تكون أفضل وهو السبب في هذه الخيرات؟ وأيضا فهو روضة من رياض الجنة ، بل أفضل رياضها ، وفي الحديث : "لقاب قوس أحدكم [في الجنة] خير من الدنيا وما فيها" .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية