قال ابن إسحاق : ثم ذكر ما أخذ الله عليهم ، وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه إذ هو جاءهم ، وإقرارهم ، فقال : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين وقال ابن عباس ، رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق; لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنه رواه البخاري . واعتراف جماعة منهم بنبوته ، ثم كفر كثير منهم بغيا وعنادا فالله سبحانه وتعالى أخذ العهد عليهم في كتبهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، إذا جاءهم ،
قال الله سبحانه وتعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون [البقرة 40] روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله عنه في الآية ، قال الله تعالى للأحبار من يهود :
اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم أي من بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون وقومه : وأوفوا بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم أوف بعهدكم يقول : أرض عنكم وأدخلكم الجنة . وروى ابن جرير عن أبي العالية في الآية قال : يقول : يا معشر أهل الكتاب ، آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقا لما معكم ، لأنهم يجدونه عندهم مكتوبا في التوراة والإنجيل ، ولا تكونوا أول كافر به ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم . وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ولا تلبسوا الحق بالباطل [البقرة 42] أي لا تخلطوا الصدق بالكذب وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [البقرة 42] أي لا تكتموا الحق وأنتم قد علمتم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله . وروى عبد بن حميد عن قتادة قال : "لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام ، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى : وتكتموا الحق وأنتم تعلمون أنه رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [الأعراف 157] وروى ابن جرير عن السدي في قوله "وتكتموا الحق" قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم . وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
وصف الله محمدا في التوراة ، أكحل العين ، ربعة ، جعد الشعر ، حسن الوجه ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حسده أحبار يهود ، فغيروا صفته في كتابهم وقالوا : لا نجد نعته عندنا ، وقالوا : نجد النبي الأمي طويلا أزرق سبط الشعر ، وقالوا للسفلة : "ليس هذا نعت النبي الذي يحرم كذا
وكذا" كما كتبوه ، وغيروا نعت هذا كما وصف ، فلبسوا بذلك على الناس . وإنما فعلوا ذلك لأن الأحبار كانت لهم مأكلة يطعمهم إياها السفلة لقيامهم على التوراة ، فخافوا أن يؤمن السفلة فتقطع تلك المأكلة .
وروى البيهقي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم قالوا :
"كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم ، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في التوراة ، فيسألون الله تعالى أن يبعثه فيقاتلون معه العرب ، فلما جاءهم كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل" .
وروى ابن إسحاق وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وأبو نعيم عنه من طرق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو نعيم عن قتادة : أن يهود أهل المدينة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة يستفتحون يدعون الله على الذين كفروا ويقولون : "اللهم إنا نستنصر بحق محمد النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم" ، فينصرون . وكانوا يقولون : "اللهم ابعث النبي الأمي الذي نجده في التوراة الذي وعدتنا أنك باعثه في آخر الزمان" . فلما جاءهم ما عرفوا ، كفروا به حسدا للعرب ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال لهم معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء أخو بني سلمة : يا معشر يهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفونه لنا بصفته . وقال ابن إسحاق : ونصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة ، بغيا وحسدا وضغنا ، لما خص الله تعالى به العرب من أخذه رسوله منهم ، وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج ، ممن كان عسي على جاهليته فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث ، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه ، فظهروا بالإسلام ، واتخذوه جنة من القتل ونافقوا في السر ، وكان هواهم مع يهود ، لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وجحودهم الإسلام .
وكانت أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنتونه ، ويأتونه باللبس ، ليلبسوا الحق بالباطل ، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه ، إلا قليلا من المسائل في الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها .
وروى ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج عن بعض من أسلم من أهل الكتاب ، قال :
"والله لنحن أعرف برسول الله منا بأبنائنا من أجل الصفة والنعت الذي نجده في كتابنا ، أما أبناؤنا فلا ندري ما أحدث النساء" وروى عبد الله بن الإمام أحمد في "زوائد المسند" عن جابر بن سمرة رضي الله عنه ،أنه قد جاء جرمقاني إلى أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- فقال : أين صاحبكم هذا الذي يزعم أنه نبي ، لئن سألته لأعلمني نبي هو أو غير نبي . ثم قال الجرمقاني : "هذا والله الذي جاء به موسى" ، الجرمقاني بجيم مفتوحة فراء ساكنة فميم مفتوحة فقاف فألف فنون ، منسوب إلى الجرامقة .
قال في "الصحاح" : قوم بالموصل أصلهم من العجم ، وقال غيره : وجرامقة الشام أنباطها .
وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حبرا من أحبار اليهود دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوافقه يقرأ سورة يوسف فقال : "يا محمد من علمكها" ؟ قال : "الله عز وجل علمنيها" ، فعجب الحبر لما سمع منه . فرجع إلى اليهود فقال : "إن محمدا ليقرأ القرآن ، كما أنزل في التوراة" .
فانطلق جماعة منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ، ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، فجعلوا يستمعون إلى قراءته لسورة يوسف ، فتعجبوا منه وأسلموا عند ذلك .
وذكر محمد بن عمر الأسلمي أن النعمان السبئي وكان من أحبار يهود اليمن ، فلما سمعوا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قدم عليه فسأله عن أشياء ، ثم قال له : "إن أبي كان يختم على سفر ويقول : "لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب ، فإذا سمعت به فافتحه" . قال النعمان : "فلما سمعت به فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة ، وإذا فيه ما تحل وما تحرم ، وإذا فيه أنك آخر الأنبياء ، وأمتك آخر الأمم ، واسمك أحمد ، وأمتك قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم صدورهم ، لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم ، ويتحنن الله تعالى عليهم كتحنن الطير على أفراخه ، ثم قال لي : إذا سمعت به فاخرج إليه وصدقه" .
وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحب أن يسمع أصحابه حديثه . فأتاه يوما فقال : "يا نعمان حدثنا" ، فابتدأ الحديث من أوله ، فرأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبتسم ، ثم قال : "أشهد أني رسول الله" .
ويقال إن النعمان هذا هو الذي قتله الأسود العنسي الكذاب وقطعه عضوا عضوا ، والنعمان يقول : "أشهد ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، وأنك كذاب مفتر على الله عز وجل" . ثم حرقه بالنار . وقال ابن إسحاق : وقال مالك بن الصيف ، حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر لهم ما أخذ عليهم له من الميثاق ، وما عهد الله إليهم فيه : والله ما عهد إلينا في محمد عهد ، وما أخذ له علينا من ميثاق .
فأنزل الله فيه : أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون وقال أبو صلوبا الفطيوني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ، ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية فنتبعك لها . فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون
قال رافع بن حريملة ، ووهب بن زيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه ، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل
وقال ابن إسحاق : وكان حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر بن أخطب ، من أشد يهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله تعالى برسوله - صلى الله عليه وسلم - وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا . فأنزل الله تعالى فيهما : : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير
قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت : كنت أحب ولد أبي إليه ، وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه . قالت : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ونزل قباء ، في بني عمرو بن عوف ، غدا عليه أبي ، حيي بن أخطب ، وعمي أبو ياسر بن أخطب ، مغلسين . قالت : فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس . قالت : فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى . قالت : فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إلي واحد منهما ، مع ما بهما من الغم . قالت : وسمعت عمي أبا ياسر ، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب : أهو هو ؟ قال : نعم والله ؛ قال : أتعرفه وتثبته ؟ قال : نعم ، قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ما بقيت . شهادة عن صفية
وذكر موسى بن عقبة ، عن الزهري ، أن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب إليه ، وسمع منه ، وحادثه ، ثم رجع إلى قومه ، فقال : يا قوم ، أطيعوني; فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون ، فاتبعوه ولا تخالفوه . فانطلق أخوه حيي بن أخطب - وهو يومئذ سيد اليهود ، وهما من بني النضير - فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه ، ثم رجع إلى قومه ، وكان فيهم مطاعا ، فقال : أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا . فقال له أخوه أبو ياسر : يا ابن أم ، أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعده ، لا تهلك . قال : والله لا أطيعك أبدا . واستحوذ عليه الشيطان واتبعه قومه على رأيه .
قلت : أما أبو ياسر بن أخطب فلا أدري ما آل إليه أمره ، وأما حيي بن أخطب والد صفية بنت حيي ، فشرب عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولم يزل ذلك دأبه حتى قتل صبرا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل مقاتلة بني قريظة ، .