الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            [ سؤال اليهود الرسول وإجابته لهم عليه الصلاة والسلام ]

            قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن ( عبد ) الرحمن بن أبي حسين المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرا من أحبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن ، فإن فعلت ذلك اتبعناك وصدقناك ، وآمنا بك . قال : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقنني ، قالوا : نعم ، قال : فاسألوا عما بدا لكم ، قالوا : فأخبرنا كيف يشبه الولد أمه ، وإنما النطفة من الرجل ؟ قال : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ، ونطفة المرأة صفراء رقيقة ، فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه ؟ قالوا : اللهم نعم ؛ قالوا : فأخبرنا كيف نومك ؟ فقال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به تنام عينه وقلبه يقظان ؟ فقالوا : اللهم نعم ، قال : فكذلك نومي ، تنام عيني وقلبي يقظان ، قالوا : فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه ؟ قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها ، وأنه اشتكى شكوى ، فعافاه الله منها ، فحرم على نفسه أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله ، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها ؟ قالوا : اللهم نعم ، قالوا : فأخبرنا عن الروح ؟ قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمونه جبريل ، وهو الذي يأتيني ؟ قالوا : اللهم نعم ، ولكنه يا محمد لنا عدو ، وهو ملك ، إنما يأتي بالشدة وبسفك الدماء ، ولولا ذلك لاتبعناك ، قال : فأنزل الله عز وجل فيهم : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين إلى قوله تعالى : أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان أي السحر وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر . وفي رواية فقالوا : يا أبا القاسم نسألك عن خمسة أشياء . وذكر نحو ما تقدم . وزاد :

            قالوا : أخبرنا عن هذا الرعد . قال : "ملك من ملائكة الله عز وجل ، موكل بالحساب ، بيده- أو قال : في يده- مخراق من نار يزجر به السحاب فيسوقه حيث أمره الله" . قالوا : فما هذا الصوت؟ قال : "صوته" . قالوا : صدقت .

            وروى الإمام أحمد ، والبزار ، والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه أن يهوديا قال : يا محمد مم يخلق الإنسان؟ قال : "يا يهودي ، يخلق من كل من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة ، أما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب ، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم" . فقال اليهودي : هكذا كان يقول من كان قبلك .

            وروى الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، وأبو نعيم عن صفوان بن عسال- بعين فسين مشددة مفتوحتين مهملتين- قال : "قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي فنسأله . فقال له صاحبه : لا تقل نبي ، فإنه لو سمعك تقول نبي كان له أربعة أعين ، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله عز وجل : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات [الإسراء 101] فقال : "لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا ، ولا تسحروا ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تفروا من الزحف ، وعليكم يا معشر اليهود خاصة ألا تعدوا في السبت" .

            فقبلا يديه ورجليه وقالا : "نشهد أنك نبي" . قال : "فما يمنعكما أن تسلما" ؟ فقالا : "إن داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبي ، وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا يهود" .


            وروى مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء حبر من اليهود فقال : أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "في ظلمة دون الجسر" .

            قال : فمن أول الناس إجازة؟ قال : "فقراء المهاجرين" . فقال : فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟

            قال : "زيادة كبد نون" . قال : "فما غذاؤهم على أثره" ؟ قال : "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" . قال : فما شرابهم عليه؟ قال : "من عين فيها تسمى سلسبيلا" . قال :

            صدقت .

            قال : وجئت أسأل عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان ، جئت أسأل عن الولد . قال : "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة فذكر بإذن الله عز وجل ، وإذا علا مني المرأة مني الرجل فأنثى بإذن الله عز وجل" .

            قال اليهودي : صدقت وإنك لنبي . ثم انصرف . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه سألني عن هذا الذي سألني عنه ، وما أعلم شيئا منه حتى أنبأني الله عز وجل"
            .

            وروى ابن أبي شيبة ، وأحمد بن منيع ، وعبد بن حميد ، والنسائي في "الكبرى" ، والطبراني بسند صحيح عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : جاء رجل من اليهود يقال له ثعلبة بن الحارث فقال : يا أبا القاسم أتزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ وقال اليهودي لأصحابه : إن أقر بها خصمته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تؤمن بشجر المسك" ؟ قال : نعم . قال :

            "وتجدها في كتابكم" ؟ قال : نعم . قال : "والذي نفسي بيده إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل إلى المطعم والمشرب والجماع" . فقال اليهودي : الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حاجتهم عرق يفيض من جلودهم مثل ريح المسك ، فتضمر بطونهم"
            .

            وروى سعيد بن منصور وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبزار ، والحاكم ، والبيهقي ، وابن جرير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم يهودي فقال :

            يا محمد ، أخبرني عن النجوم التي رآها يوسف عليه السلام ساجدة له ما أسماؤها؟ فلم يجبه بشيء . فنزل عليه جبريل فأخبره [بأسمائها] . فبعث إلى اليهودي وقال له : "أتسلم إن أخبرتك بأسمائها" ؟ قال : نعم ، فقال : " [هي] : حرثان وطارق والذيال وذو الكنفات وذو الفرغ ووثاب وعمودان وقابس والضروج والمصبح والفليق والضياء والنور . رآها يوسف عليه السلام في أفق السماء ساجدة له" .

            فقال اليهودي : هذه والله أسماؤها .
            قال الحكم بن ظهير أحد رواته :

            الضياء هو الشمس وهو أبوه ، والنور هو القمر وهي أمه . قال الحافظ في حاشية كتبها على "مجمع الزوائد" : رأيت في نسخة مصححة أنه من ضعفاء العقيلي . سؤال اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح

            روى الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : "كنت أمشي مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حرث المدينة- وفي لفظ : حرث الأنصار ، وفي لفظ : في نخل- وهو متوكئ على عسيب- وفي لفظ : ومعه جريدة- إذ مر اليهود- وفي لفظ : إذ مر بنفر من اليهود- فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه ، لا يسمعكم ما تكرهون-وفي لفظ : لا يستقبلكم بشيء تكرهونه- فقال بعضهم لبعض : لنسألنه ، فقام إليه رجل- وفي لفظ : فقاموا إليه فقالوا : "يا محمد" - وفي لفظ : "يا أبا القاسم ما الروح" ؟ - وفي لفظ : "فأخبرنا عن الروح ، كيف تعذب الروح الذي في الجسد؟ وإنما الروح من الله عز وجل" فسكت- وفي لفظ : فما زال متكئا على العسيب ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فتأخرت ، فلما نزل الوحي قال : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا . [الإسراء : 85] وفي رواية عند ابن جرير بسند رجاله ثقات عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه : فقالوا : "هكذا نجده في كتابنا" . فقال بعضهم لبعض : "وقد قلنا لكم : لا تسألوه" . تنبيهات

            الأول : دل حديث ابن مسعود على أن نزول هذه الآية كان بالمدينة ، وروى الإمام أحمد والترمذي وصححه ، والنسائي وابن حبان عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل . فقالوا : سلوه عن الروح . فنزلت : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا . قالوا : "أوتينا علما كثيرا . أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا" . فأنزل الله عز وجل : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا [الكهف 109] سند رجاله رجال صحيح مسلم ، ورواه ابن إسحاق من وجه آخر نحوه ، وسبق في باب امتحان المشركين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأشياء لا يعرفها إلا نبي .

            وروى ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

            فلما هاجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد ، بلغنا أنك تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم عنيت قومك؟ قال : "لا بل عنيتكم" . فقالوا : "إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء" . فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- :

            "هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم" ،

            وأنزل الله عز وجل : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ، ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير .
            [لقمان 27 ، 28] ودل حديث ابن مسعود ، وأثر عطاء أن الآية نزلت بمكة ، وجمع بينهما وبين حديث ابن مسعود رضي الله عنه بتعدد النزول ، ويحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك إن ساغ ذلك ، وإلا فما في الصحيح أصح . وقال الشيخ رحمه الله تعالى في "الإتقان" : "إذا استوى الإسنادان في الصحة فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات" ، ثم ذكر [مثالا له] حديث ابن مسعود وحديث ابن عباس المذكورين . ثم قال :

            "فهذا- أي حديث ابن عباس- يقتضي أن الآية نزلت بمكة ، والحديث الأول خلافه" . وقد رجح أن ما رواه البخاري أصح من غيره ، وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة .

            الثاني : قال أبو نعيم : "قيل : من علامات نبوة سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- في الكتب المنزلة أنه إذا سئل عن الروح فوض العلم بحقيقتها إلى منشئها وبارئها ، وأمسك عما خاضت فيه الفلاسفة وأهل المنطق القائلون بالحدس والتخمين ، فامتحنه اليهود بالسؤال عنها ليقفوا منه على نعته المثبت عندهم في كتابهم ، فوافق كتابه ما ثبت في كتبهم" .

            [ سؤالهم له صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين ]

            قال ابن إسحاق : وقال حيي بن أخطب ، وكعب بن أسد ، وأبو رافع ، وأشيع ، وشمويل بن زيد ، لعبد الله بن سلام حين أسلم : ما تكون النبوة في العرب ولكن صاحبك ملك . ثم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذي القرنين فقص عليهم ما جاءه من الله تعالى فيه ، مما كان قص على قريش ، وهم كانوا ممن أمر قريشا أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، حين بعثوا إليهم النضر بن الحارث ، وعتبة بن أبي معيط .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية