الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            تحيرهم في مدة مكث هذه الأمة لما سمعوا الحروف المقطعة في أوائل السور

            قال ابن إسحاق- فيما ذكر لي عن عبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله بن رئاب- "إن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتلو فاتحة البقرة الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [البقرة 1 ، 2] ، فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من يهود ، فقال : تعلموا ، والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه : الم ذلك الكتاب ، فقالوا :

            أنت سمعته؟ قال : نعم . فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له : "يا محمد ، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك الم ذلك الكتاب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بلى" . قالوا : "أجاءك بها جبريل من عند الله؟ قال : "نعم" . قالوا : "لقد بعث الله قبلك أنبياء أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك" . فقام حيي بن أخطب ، وأقبل على من معه فقال لهم : "الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، أفتدخلون في دين [نبي] إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة" ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يا محمد هل مع هذا غيره" ؟ قال : "نعم" قال : ماذا؟ قال :

            المص [الأعراف 1] قال : هذا أثقل وأطول : الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون ، فهذه إحدى وستون ومائة سنة ، هل مع هذا يا محمد غيره" ؟ قال : "نعم" . [قال :

            وما ذاك؟] قال : الر [يوسف : 1] قال : "هذه أثقل وأطول : الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فهل مع هذا غيره يا محمد" ؟ قال : "نعم" المر [الرعد 1] . قال : "هذه والله أثقل وأطول : الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة" . ثم قال : "لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا" .

            ثم قاموا عنه ، فقال أبو ياسر لأخيه ولمن معه من الأحبار : "ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد : إحدى وسبعون [وإحدى وستون ومائة] ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون" . فقالوا : لقد تشابه علينا أمره . فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات
            [آل عمران 7] .

            [قال ابن إسحاق] : "وقد سمعت من لا أتهم من أهل العلم يذكر أن هؤلاء الآيات أنزلت في أهل نجران حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن عيسى بن مريم . وقد حدثني

            محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أن هؤلاء الآيات إنما أنزلن في نفر من يهود ولم يفسر ذلك لي ، فالله أعلم أي ذلك كان" . قال السهيلي : "وهذا القول من أخبار يهود ، وما تأولوه من معاني هذه الحروف محتمل حتى الآن أن يكون من بعض ما دلت عليه هذه الحروف المقطعة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكذبهم ، فيما قالوا من ذلك ولا صدقهم .

            وقال في حديث آخر : "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وبرسوله"

            . وإذا كان في حد الاحتمال وجب ، أي يفحص عنه في الشريعة ، هل يشير إلى كتاب أو سنة؟ فوجدنا في التنزيل وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [الحج 47] ووجدنا في حديث زمل الخزاعي حين قص على رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا قال فيها : "رأيتك يا رسول الله على منبر له سبع درجات ، وإلى جنبك ناقة عجفاء كأنك تبعثها" . ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم الناقة بقيام الساعة التي أنذر بها ، وقال في المنبر ودرجاته : "الدنيا سبعة آلاف سنة ، بعثت في آخرها ألفا" والحديث وإن كان ضعيف الإسناد ، فقد روي موقوفا عن ابن عباس من طرق صحاح أنه قال : "الدنيا سبعة أيام ، كل يوم منها ألف سنة" ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم منها ، وقد مضت [منه] سنون أو قال مئون : [قال السهيلي] : ولكن إذا قلنا : أنه عليه الصلاة والسلام بعث في الألف الأخيرة بعد ما مضت منه سنون ، ونظرنا بعد إلى الحروف المقطعة في أوائل السور وجدناها أربعة عشر حرفا يجمعها قولك : "ألم يسطع نص حق كره" ، ثم نأخذ العدد على حساب أبي جاد ، فنجد "ق" مائة و "ر" مائتين و "س" ثلاثمائة ، فهذه ستمائة ، و "ع" سبعين ، و "ص" ستين ، فهذه سبعمائة وثلاثون ، و "ن" خمسين و "ك" عشرين ، فهذه ثمانمائة و "م" أربعين و "ل" ثلاثين ، فهذه ثمانمائة وسبعون ، و "ي" عشرة و "ط" تسعة و "ا" واحدا ، فهذه ثمانمائة وتسعون ، و "ح" ثمانية و "هـ-" خمسة ، فهذه تسعمائة وثلاثة . ولم يسم الله عز وجل في أوائل السور إلا هذه الحروف ، فليس يبعد أن يكون من بعض مقتضياتها وبعض فوائدها الإشارة إلى هذا العدد من السنين ، لما قدمناه في حديث الألف السابع الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . غير أن الحساب يحتمل أن يكون من مبعثه أو من وفاته أو من هجرته ، وكل قريب بعضه من بعض ، فقد جاءت أشراط الساعة ، ولكن لا تأتيكم إلا بغتة .

            وقد روي أن المتوكل العباسي سأل جعفر بن عبد الواحد القاضي ، وهو عباسي أيضا ، عما بقي من الدنيا ، فحدثه بحديث رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن أحسنت أمتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة وذلك ألف سنة ، وإن أساءت فنصف يوم" ،

            ففي هذا الحديث تتميم للحديث المتقدم وبيان له ، إذ قد انقضت الخمسمائة والأمة باقية والحمد لله" وما ذكره في عدد الحروف مبني على طريقة المغاربة : السين بثلاثمائة ، والصاد بستين ، وعند المشارقة : السين ستون والصاد تسعون . فيكون المقدار عندهم ستمائة وثلاثة وتسعين ، وقد مضت وزيادة عليها ، فإنه في سنة خمس وثلاثين وتسعمائة ، فالجملة على ذلك من هذه الحيثية باطلة . وقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عدد أبي جاد ، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر . قال الحافظ : "وليس ببعيد ، فإنه لا أصل له في الشريعة" . وقال القاضي أبو بكر بن العربي شيخ السهيلي في

            قوله صلى الله عليه وسلم : "بعثت أنا والساعة كهاتين" ،

            وأشار بالسبابة والوسطى .
            قيل : الوسطى تزيد على السبابة بنصف سبع إصبع ، وكذلك الباقي من البعثة إلى قيام الساعة" . قال "وهذا بعيد ، ولا يعلم مقدار الدنيا ، فكيف يتحصل لنا نصف سبع أمد مجهول؟ فالصواب الإعراض عن ذلك" . وقال القاضي في "الإكمال" : "حاول بعضهم في تأويله أن نسبة ما بين الإصبعين كنسبة ما بقي من الدنيا إلى ما مضى ، وأن جملتها سبعة آلاف سنة ، واستند إلى أخبار لا تصح ، وذكر ما أخرجه أبو داود في تأخر هذه الأمة نصف يوم ، وفسره بخمسمائة سنة ، فيؤخذ من ذلك نصف سبع ، وهو قريب مما يلي السبابة والوسطى في الطول" . قال : "وقد ظهر عدم صحة ذلك لوقوع خلافه ومجاوزة هذا المقدار ، ولو كان ذلك ثابتا لم يقع خلافه" . انتهى .

            وقد انضاف إلى ذلك منذ عهد القاضي إلى هذا الحين نحو الأربعمائة سنة . وقال ابن العربي أيضا في فوائد رحلته : "ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقد تحصل لي فيها عشرون قولا وأزيد ، ولا أعرف أحدا يحكم عليها بعلم ، ولا يصل فيها إلى فهم" إلى آخر ما ذكره . وقد ذكرته مع فوائد أخرى في الكلام على هذه الحروف في كتابي : "القول الجامع الوجيز الخادم للقرآن العزيز" . لا توجد مجموعة في غيره .

            وقال الحافظ : "وأما عدد الحروف ، فإنما جاء عن بعض اليهود ، وعلى تقدير أن يكون ما ذكر في عدد الحروف ، فليحمل على جميع الحروف الواردة ولا يحذف المكرر ، فإنه ما من حرف إلا وله سر يخصه ، أو يقتصر على حذف المكرر من أسماء السور ولو تكررت الحروف فيها ، فإن السور التي ابتدئت بذلك تسع وعشرون سورة ، وعدد حروف الجميع ثمانية وستون حرفا وهي : الم : ستة ، وحم : سبعة ، والر : خمسة ، وطسم : اثنتان والمص وكهيعص وطه وطس ويس وص وق ون . فإذا حذف ما كرر من السور وهي خمس من الم وست من حم ، وأربع من الر وواحدة من طسم ، بقي أربع عشرة سورة عدد حروفها ثمانية وثلاثون حرفا .

            فإذا حسبت عددها بالجمل المغربي بلغت ألفين وستمائة وأربعة وعشرين ، وأما بالجمل المشرقي فتبلغ ألفا وسبعمائة وأربعة وخمسين . قال الحافظ : "ولم أذكر ليعتمد عليه ، وإنما ليتبين أن الذي جنح إليه السهيلي لا ينبغي الاعتماد عليه لشدة التخالف فيه" .

            وفي جامع معمر عن مجاهد وعكرمة في قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [المعارج 4] لا يدري كم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية