فتجهز الناس سراعا وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي -أي الآتي في السرايا- كلا والله ليعلمن غير ذلك ، فكانوا بين رجلين ، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا ، وكان جهازهم في ثلاثة أيام ، ويقال : في يومين ، وأعان قويهم ضعيفهم .
وقال سهيل بن عمرو ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وحنظلة بن أبي سفيان يحضون الناس على الخروج . وقال سهيل : يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة معه من شبانكم ، وأهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم ، من أراد مالا فهذا مالي ، ومن أراد قوة فهذه قوتي ، فمدحه أمية بن أبي الصلت بأبيات ، ومشى نوفل بن معاوية إلى أهل القوة من قريش ، فكلمهم في بذل النفقة والحملان لمن خرج ، فقال عبد الله بن أبي ربيعة : هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت ، وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار ، ويقال : ثلاثمائة دينار ، وقوي بها في السلاح والظهر ، وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيرا ، وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة ، ولم يتركوا كارها للخروج يظنون أنه في صف محمد وأصحابه ، ولا مسلما يعلمون إسلامه ، ولا أحدا من بني هاشم ، إلا من لا يتهمون ، إلا أشخصوه معهم ، وكان ممن أشخصوا العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وطالب بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب في آخرين .
وكان لا يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعيثا ، ومشوا إلى أبي لهب فأبى أن يخرج أو يبعث أحدا . ويقال : إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة -وأسلم بعد ذلك- وكان قد ليط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه ، أفلس بها ، فاستأجره على أن يجزي عنه بعثه ، فخرج عنه وتخلف أبو لهب ، منعه من الخروج رؤيا عاتكة فإنه كان يقول : رؤيا عاتكة كأخذ باليد ، واستقسم أمية بن خلف ، وعتبة ، وشيبة ، وزمعة بن الأسود ، وعمير بن وهب ، وحكيم بن حزام ، وغيرهم ، عند هبل بالآمر والناهي من الأزلام ، فخرج القدح الناهي عن الخروج ، فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل بن هشام . ولما أجمع أمية بن خلف القعود -وكان شيخا جليلا ، جسيما ثقيلا- أتاه عقبة بن أبي معيط ، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه ، بمجمرة فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال : يا أبا علي استجمر؛ فإنما أنت من النساء ، فقال : قبحك الله وقبح ما جئت به ، ثم تجهز وخرج مع الناس. سعد بن معاذ ورده على أبي جهل وإخباره أمية بقتل النبي صلى الله عليه وسلم له وقد رواها البخاري على نحو آخر ، فقال : حدثني أحمد بن عثمان ، حدثنا شريح بن مسلمة ، ثنا إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، حدثني عمرو بن ميمون ، أنه سمع عبد الله بن مسعود حدث عن سعد بن معاذ أنه كان صديقا لأمية بن خلف ، وكان أمية إذا مر بالمدينة ، نزل على سعد بن معاذ ، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، انطلق سعد بن معاذ معتمرا ، فنزل على أمية بمكة ، فقال سعد لأمية : انظر لي ساعة خلوة ، لعلي أطوف بالبيت . فخرج به قريبا من نصف النهار ، فلقيهما أبو جهل ، فقال : يا أبا صفوان من هذا معك ؟ قال : هذا سعد . قال له أبو جهل : ألا أراك تطوف بمكة آمنا ، وقد آويتم الصباة ، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم ، أما والله ، لولا أنك مع أبي صفوان ، ما رجعت إلى أهلك سالما . فقال له سعد ، ورفع صوته عليه : أما والله ، لئن منعتني هذا ، لأمنعنك ما هو أشد عليك منه ، طريقك على المدينة . فقال له أمية : لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم ، فإنه سيد أهل الوادي ، قال سعد دعنا عنك يا أمية ، فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنهم قاتلوك " . قال : بمكة ؟ قال : لا أدري . ففزع لذلك أمية فزعا شديدا ، فلما رجع إلى أهله قال : يا أم صفوان ، ألم تري ما قال لي سعد ؟ قالت : وما قال لك ؟ قال : زعم أن محمدا أخبرهم أنهم قاتلي ، فقلت له : بمكة ؟ قال لا أدري . فقال أمية : والله لا أخرج من مكة . فلما كان يوم بدر ، استنفر أبو جهل الناس فقال : أدركوا عيركم . فكره أمية أن يخرج ، فأتاه أبو جهل فقال : يا أبا صفوان ، إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي ، تخلفوا معك . فلم يزل به أبو جهل حتى قال : أما إذ غلبتني ، فوالله لأشترين أجود بعير بمكة . ثم قال أمية : يا أم صفوان ، جهزيني . فقالت له : يا أبا صفوان ، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي ؟ قال : لا ، وما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا . فلما خرج أمية ، أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر .