الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            فتجهز الناس سراعا وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي -أي الآتي في السرايا- كلا والله ليعلمن غير ذلك ، فكانوا بين رجلين ، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا ، وكان جهازهم في ثلاثة أيام ، ويقال : في يومين ، وأعان قويهم ضعيفهم .

            وقال سهيل بن عمرو ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وحنظلة بن أبي سفيان يحضون الناس على الخروج . وقال سهيل : يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة معه من شبانكم ، وأهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم ، من أراد مالا فهذا مالي ، ومن أراد قوة فهذه قوتي ، فمدحه أمية بن أبي الصلت بأبيات ، ومشى نوفل بن معاوية إلى أهل القوة من قريش ، فكلمهم في بذل النفقة والحملان لمن خرج ، فقال عبد الله بن أبي ربيعة : هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت ، وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار ، ويقال : ثلاثمائة دينار ، وقوي بها في السلاح والظهر ، وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيرا ، وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة ، ولم يتركوا كارها للخروج يظنون أنه في صف محمد وأصحابه ، ولا مسلما يعلمون إسلامه ، ولا أحدا من بني هاشم ، إلا من لا يتهمون ، إلا أشخصوه معهم ، وكان ممن أشخصوا العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وطالب بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب في آخرين .

            وكان لا يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعيثا ، ومشوا إلى أبي لهب فأبى أن يخرج أو يبعث أحدا . ويقال : إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة -وأسلم بعد ذلك- وكان قد ليط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه ، أفلس بها ، فاستأجره على أن يجزي عنه بعثه ، فخرج عنه وتخلف أبو لهب ، منعه من الخروج رؤيا عاتكة فإنه كان يقول : رؤيا عاتكة كأخذ باليد ، واستقسم أمية بن خلف ، وعتبة ، وشيبة ، وزمعة بن الأسود ، وعمير بن وهب ، وحكيم بن حزام ، وغيرهم ، عند هبل بالآمر والناهي من الأزلام ، فخرج القدح الناهي عن الخروج ، فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل بن هشام . ولما أجمع أمية بن خلف القعود -وكان شيخا جليلا ، جسيما ثقيلا- أتاه عقبة بن أبي معيط ، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه ، بمجمرة فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال : يا أبا علي استجمر؛ فإنما أنت من النساء ، فقال : قبحك الله وقبح ما جئت به ، ثم تجهز وخرج مع الناس. سعد بن معاذ ورده على أبي جهل وإخباره أمية بقتل النبي صلى الله عليه وسلم له وقد رواها البخاري على نحو آخر ، فقال : حدثني أحمد بن عثمان ، حدثنا شريح بن مسلمة ، ثنا إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، حدثني عمرو بن ميمون ، أنه سمع عبد الله بن مسعود حدث عن سعد بن معاذ أنه كان صديقا لأمية بن خلف ، وكان أمية إذا مر بالمدينة ، نزل على سعد بن معاذ ، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، انطلق سعد بن معاذ معتمرا ، فنزل على أمية بمكة ، فقال سعد لأمية : انظر لي ساعة خلوة ، لعلي أطوف بالبيت . فخرج به قريبا من نصف النهار ، فلقيهما أبو جهل ، فقال : يا أبا صفوان من هذا معك ؟ قال : هذا سعد . قال له أبو جهل : ألا أراك تطوف بمكة آمنا ، وقد آويتم الصباة ، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم ، أما والله ، لولا أنك مع أبي صفوان ، ما رجعت إلى أهلك سالما . فقال له سعد ، ورفع صوته عليه : أما والله ، لئن منعتني هذا ، لأمنعنك ما هو أشد عليك منه ، طريقك على المدينة . فقال له أمية : لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم ، فإنه سيد أهل الوادي ، قال سعد دعنا عنك يا أمية ، فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنهم قاتلوك " . قال : بمكة ؟ قال : لا أدري . ففزع لذلك أمية فزعا شديدا ، فلما رجع إلى أهله قال : يا أم صفوان ، ألم تري ما قال لي سعد ؟ قالت : وما قال لك ؟ قال : زعم أن محمدا أخبرهم أنهم قاتلي ، فقلت له : بمكة ؟ قال لا أدري . فقال أمية : والله لا أخرج من مكة . فلما كان يوم بدر ، استنفر أبو جهل الناس فقال : أدركوا عيركم . فكره أمية أن يخرج ، فأتاه أبو جهل فقال : يا أبا صفوان ، إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي ، تخلفوا معك . فلم يزل به أبو جهل حتى قال : أما إذ غلبتني ، فوالله لأشترين أجود بعير بمكة . ثم قال أمية : يا أم صفوان ، جهزيني . فقالت له : يا أبا صفوان ، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي ؟ قال : لا ، وما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا . فلما خرج أمية ، أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية