وصول أبي سفيان إلى قرب المدينة وحذره من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق وغيره : وأقبل أبو سفيان بالعير وقد خاف خوفا شديدا ، حتى دنوا من المدينة ، واستبطأ ضمضم بن عمرو النفير ، حتى ورد بدرا وهو خائف ، فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر جعلت العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر ، وكانوا باتوا من وراء بدر ، آخر ليلتهم ، وهم على أن يصبحوا بدرا إن لم يعترض لهم ، فما انقادت العير لهم حتى ضربوها بالعقل وهي ترجع الحنين ، فتواردا إلى ماء بدر وما بها إلى الماء من حاجة ، لقد شربت بالأمس ، وجعل أهل العير يقولون : هذا شيء ما صنعته معنا منذ خرجنا ، وغشيتهم ظلمة تلك الليلة حتى ما يبصر أحد منهم شيئا . وتقدم أبو سفيان أمام العير حذرا حتى ورد الماء فرأى مجدي -بفتح الميم وإسكان الجيم فدال مهملة فياء ممدودة كياء النسب- ابن عمرو الجهني فقال له : هل أحسست أحدا ؟ قال : ما رأيت أحدا أنكره غير أني قد رأيت راكبين -يعني بسبسا وعديا- قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن لهما ، ثم انطلقا ، فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففتته فإذا فيه النوى ، فقال : هذه والله علائف يثرب . فرجع إلى أصحابه سريعا فضرب وجه عيره عن الطريق ، فساحل بها ، وترك بدرا بيسار ، وانطلق حتى أسرع فسار ليلا ونهارا فرقا من الطلب .
ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش قيس بن امرئ القيس : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله ، فارجعوا ، فأتاهم الخبر وهم بالجحفة ، فقال أبو جهل بن هشام : والله لا نرجع حتى نرد بدرا -وكان بدر موسما من مواسم العرب ، يجتمع لهم به سوق كل عام- فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها .
وكره أهل الرأي المسير ، ومشى بعضهم إلى بعض ، وكان ممن أبطأ بهم عن ذلك الحارث بن عامر ، وأمية بن خلف ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وحكيم بن حزام ، وأبو البختري ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاص بن منبه ، حتى بكتهم أبو جهل بالجبن ، وأعانه عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث بن كلدة . وأجمعوا المسير .
وقال الأخنس بن شريق -وكان حليف بني زهرة- : يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم ، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله ، فاجعلوا بي جبنها وارجعوا ، فإنه لا حاجة لكم أن تخرجوا في غير ضيعة ، لا ما يقول هؤلاء ، فرجعوا ، وكانوا نحو المائة ، ويقال : ثلاثمائة ، فما شهدها زهري إلا رجلين هما عما مسلم بن شهاب الزهري ، وقتلا كافرين .
قال ابن سعد : ولحق قيس بن امرئ القيس أبا سفيان فأخبره مجيء قريش ، فقال : واقوماه! هذا عمل عمرو بن هشام ، يعني أبا جهل ، واغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس ، فلم يزل فيهم مطاعا معظما ، وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل وقال : لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع .
قال ابن سعد : وكانت بنو عدي بن كعب مع النفير ، فلما بلغوا ثنية لفت عدلوا في السحر إلى الساحل منصرفين إلى مكة ، فصادفهم أبو سفيان بن حرب فقال : يا بني عدي ، كيف رجعتم ، لا في العير ولا في النفير ؟ قالوا : أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع ، ويقال : بل لقيهم بمر الظهران .