الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار بالحصباء

            قال الله سبحانه وتعالى : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال : 17] قال محمد بن عمر الأسلمي : وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ من الحصباء كفا ، فرمى به المشركين وقال : «شاهت الوجوه ، اللهم أرعب قلوبهم ، وزلزل أقدامهم» .

            فانهزم أعداء الله لا يلوون على شيء ، وألقوا دروعهم ، والمسلمون يقتلونهم .

            وروى ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم ، وحصاة بين أظهرهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «شاهت الوجوه» فانهزم القوم .

            وروى الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم بسند حسن ، عن حكيم بن حزام ، قال : لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الأرض ، كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصاة وقال : «شاهت الوجوه» فانهزمنا .

            وروى أبو الشيخ وأبو نعيم وابن مردويه ، عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست ، فلما اصطف الناس أخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن وجوه المشركين فانهزموا .

            وروى الطبراني وأبو الشيخ برجال الصحيح ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي : «ناولني قبضة من حصباء» فرمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه الكفار ، فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء .

            وروى ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس ، والأموي عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا» فقال له جبريل : خذ قبضة من تراب فارم بها في وجوههم ، فما بقي من المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه ، فولوا مدبرين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «احملوا» فلم تكن إلا الهزيمة ، فقتل الله من قتل من صناديدهم وأسر من أسر ، .

            قال ابن عقبة وابن عائذ : فكانت تلك الحصباء عظيما شأنها ، لم تترك من المشركين رجلا إلا ملأت عينيه ، وجعل المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم ، وبادر كل رجل منهم منكبا على وجهه لا يدري أين يتوجه ، يعالج التراب ينزعه من عينيه .

            قال ابن إسحاق : فكانت الهزيمة ، فقتل الله من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أشرافهم ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العريش متوشحا بالسيف ، في نفر من الأنصار يحرسونه يخافون كرة العدو ، وسعد بن معاذ رضي الله عنه قائم على باب العريش متوشح بالسيف .

            وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي عن الزهري : «اللهم اكفني نوفل بن خويلد» فأسره جبار بن صخر ، ولقيه علي فقتله ، وقتل علي أيضا العاص بن سعيد ، ثم قال : من له علم بنوفل ؟ فقال علي : أنا قتلته ، فقال : «الحمد لله الذي أجاب دعوتي منه» . فأنزل الله في شأن هذه الرمية على رسوله : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) [ الأنفال : 17 ] .

            وقد ظن طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد ، وإثباته لله ، وأنه هو الفاعل حقيقة ، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة مذكورة في غير هذا الموضع . ومعنى الآية : أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي ، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميته فالرمي يراد به الحذف والإيصال ، فأثبت لنبيه الحذف ، ونفى عنه الإيصال . في الكلام على قوله تعالى : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال : 17] .

            قال في زاد المعاد : اعتقد جماعة أن المراد بالآية سلب فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإضافته إلى الرب تبارك وتعالى حقيقة ، وجعلوا ذلك أصلا للجبر ، وإبطال نسبة الأفعال ونسبتها إلى الرب تبارك وتعالى وحده ، وهذا غلط منهم في فهم القرآن ، فلو صح ذلك لوجب طرده فيقال : ما صليت إذ صليت ، ولا صمت إذ صمت ، ولا فعلت كل ذلك إذ فعلت ، ولكن الله فعل ذلك ، فإن طردوا ذلك لزمهم في أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم؛ إذ لا فرق ، وإن خصوه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله جميعها أو رمية واحدة ناقضوا ، فهؤلاء لم يوفقهم الله تعالى لفهم ما أريد بالآية ، ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ ، فكان منه صلى الله عليه وسلم هذا الرمي ، وهو الحذف ، ومن الرب سبحانه وتعالى نهايته وهو الإيصال ، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته ، ونظير هذه الآية نفسها قوله تعالى : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم [الأنفال : 17] ثم قال : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فأخبر أنه سبحانه وتعالى وحده هو الذي تفرد بإيصال الحصا إلى أعينهم ، ولم يكن برسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه وتعالى أقام أسبابا تظهر للناس ، فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه وبه ، وهو خير الناصرين .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية