الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            مقتل أبي جهل لعنه الله

            قال ابن هشام : وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز ويقول :


            ما تنقم الحرب العوان مني بازل عامين حديث سني


            لمثل هذا ولدتني أمي



            قال ابن إسحاق : ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه ، أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى ، وكان أول من لقي أبا جهل ، كما حدثني ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وعبد الله بن أبي بكر أيضا قد حدثني ذلك ، قالا : قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة : سمعت القوم ، وأبو جهل في مثل الحرجة ، وهم يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه . فلما سمعتها جعلته من شأني ، فصمدت نحوه ، فلما أمكنني ، حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه فوالله ما شبهتها حين طاحت ، إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها . قال : وضربني ابنه عكرمة على عاتقي ، فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي ، وأجهضني القتال عنه ، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي ، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها - قال ابن إسحاق : ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان . عبد الله بن مسعود يقطع رأس أبي جهل فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل ، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس في القتلى ، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني : انظروا ، إن خفي عليكم في القتلى ، إلى أثر جرح في ركبته ، فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان ، وكنت أشف منه بيسير ، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش في إحداهما جحشا لم يزل أثره به . قال ابن مسعود : فوجدته بآخر رمق فعرفته ، فوضعت رجلي على عنقه - قال : وقد كان ضبث بي مرة بمكة ، فآذاني ولكزني - ثم قلت له : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزاني ؟ قال : أعمد من رجل قتلتموه ، أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال : قلت : لله ولرسوله .

            قال ابن إسحاق : وزعم رجال من بني مخزوم ، أن ابن مسعود كان يقول : قال لي : لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم . قال : ثم احتززت رأسه ، ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، هذا رأس عدو الله . فقال : آلله الذي لا إله غيره ؟ وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : نعم ، والله الذي لا إله غيره . ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله فحمد الله . هكذا ذكر ابن إسحاق رحمه الله .

            وقد ثبت في " الصحيحين " ، من طريق يوسف بن يعقوب بن الماجشون ، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : إني لواقف يوم بدر في الصف ، فنظرت عن يميني وشمالي ، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما ، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما ، فغمزني أحدهما فقال : يا عم ، أتعرف أبا جهل ؟ فقلت : نعم ، وما حاجتك إليه ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي نفسي بيده لئن رأيته ، لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، فتعجبت لذلك ، فغمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس ، فقلت ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه . فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال : أيكما قتله ؟ قال كل منهما : أنا قتلته . قال : هل مسحتما سيفيكما ؟ قالا : لا . قال : فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في السيفين فقال : كلاكما قتله . وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح . والآخر معاذ ابن عفراء .

            وفي " الصحيحين " أيضا ، من حديث سليمان التيمي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ينظر ما صنع أبو جهل ؟ قال ابن مسعود : أنا يا رسول الله ، فانطلق ، فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد قال فأخذ بلحيته . قال : فقلت : أنت أبو جهل ؟ فقال : وهو فوق رجل قتلتموه . أو قال قتله قومه .

            .

            وقال أبو إسحاق الفزاري ، عن الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن ابن مسعود قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فقلت : قد قتلت أبا جهل . فقال : آلله الذي لا إله إلا هو ؟ فقلت : آلله الذي لا إله إلا هو . مرتين أو ثلاثا . قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . ثم قال : انطلق فأرنيه . فانطلقت فأريته فقال : هذا فرعون هذه الأمة . ورواه أبو داود ، والنسائي . من حديث أبي إسحاق السبيعي به .

            وقال الواقدي : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصرع ابني عفراء فقال : رحم الله ابني عفراء ، فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر . فقيل يا رسول الله ، ومن قتله معهما ؟ قال : الملائكة ، وابن مسعود قد شرك في قتله . رواه البيهقي .

            صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين حين بلغه مقتل أبي جهل وقال البيهقي : أخبرنا الحاكم ، أخبرنا الأصم ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يونس بن بكير ، عن عنبسة بن الأزهر ، عن أبي إسحاق قال : لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم البشير يوم بدر بقتل أبي جهل ، استحلفه ثلاثة أيمان بالله الذي لا إله إلا هو ، لقد رأيته قتيلا ؟ فحلف له ، فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا .

            ثم روى البيهقي ، من طريق أبي نعيم ، عن سلمة بن رجاء ، عن الشعثاء ، امرأة من بني أسد ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين ، حين بشر بالفتح وحين جيء برأس أبي جهل

            وقال ابن ماجه : حدثنا أبو بشر بكر بن خلف ، حدثنا سلمة بن رجاء قال : حدثتني شعثاء ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين .

            وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبي ، حدثنا هشيم ، أخبرنا مجالد ، عن الشعبي ، أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض ، فيضربه رجل بمقمعة معه حتى يغيب في الأرض ، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك مرارا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة .

            التاسع عشر : اختلف في قاتل أبي جهل ، ففي صحيح البخاري في كتاب الخمس عن عبد الرحمن بن عوف أن معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ ابن عفراء قتلا أبا جهل ، وفيه أيضا عن أنس أن ابن مسعود انطلق لينظر أبا جهل فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد -بفتح الموحدة والراء المهملة- أي مات ، أو صار في حال من مات ، ولم يبق فيه سوى حركة المذبوح ، وابنا عفراء هما معاذ ومعوذ ، بتشديد الواو .

            وعند ابن إسحاق ، عن ابن عباس ، عن عمرو بن الجموح أنه ضرب أبا جهل ضربة أطنت قدمه ، ثم مر به معوذ ابن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق ، ثم مر بأبي جهل عبد الله بن مسعود وبه رمق فذكر ما سبق في القصة ، واحتز رأسه .

            قال في الفتح بعد ذكر حديث ابن عوف : عفراء : والدة معوذ واسم أبيه الحارث . وأما معاذ بن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء ، وإنما أطلق عليه تغليبا ، ويحتمل أن تكون أم معاذ أيضا تسمى عفراء ، أو أنه كان لمعوذ أخ يسمى معاذا باسم الذي شركه في قتل أبي جهل ظنه الراوي أخاه ، وما رواه ابن إسحاق يجمع بين الأحاديث ، لكنه يخالف حديث ابن عوف أنه رأى معاذ ابن عفراء ومعاذ بن عمرو شدا عليه جميعا حتى طرحاه ، وابن إسحاق يقول : إن ابن عفراء هو معوذ ، والذي في الصحيح معاذ وهما أخوان ، فيحتمل أن يكون معاذ ابن عفراء شد عليه فتجتمع الأقوال كلها ، وإطلاق كونهما قتلاه يخالف في الظاهر حديث ابن مسعود أنه وجده وبه رمق ، وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما إياه بسيفيهما منزلة المقتول ، حتى لم يبق إلا مثل حركة المذبوح ، وفي تلك الحالة لقيه ابن مسعود فضرب عنقه .

            وأما ما ذكره ابن عتبة وأبو الأسود عن عروة : أن ابن مسعود أنه وجد أبا جهل مصروعا بينه وبين المعركة غير كثير ، متقنعا في الحديد واضعا سيفه على فخذه ، إلى آخر ما ذكر في القصة ، فيحمل على أن ذلك وقع بعد أن خاطبه كما تقدم . أول رأس حمل في الإسلام رأس عدو الله أبي جهل ، وحمل إليه رأس سفيان بن خالد الهذلي ، حمله عبد الله بن أنس كما سيأتي ، وحمل إليه أيضا رأس كعب بن الأشرف كما سيأتي ، ورأس أبي عزة ، ومرحب اليهودي كما رواه الإمام أحمد ، ورأس العنسي الكذاب كما ذكره بعضهم ، وعصماء بنت مروان ، ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة ، وأول مسلم حمل رأسه عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه . وأما ما رواه أبو داود في مراسيله عن الزهري قال : لم يحمل .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية