روى ابن سعد ، عن الشعبي قال : كان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون ، فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم ، فإذا حذقوا فهم فداؤه ، وكان زيد بن ثابت ممن علم .
وروى أبو داود ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة ، وادعى العباس أنه لا مال عنده ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل ، وقلت لها : إن أصبت في سفري هذا لبني : الفضل ، وعبد الله ، وقثم ؟ » فقال : والله إني لأعلم أنك رسول الله ، إن هذا الشيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل .
وروى البيهقي ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي ، قال : كان فداء العباس وعقيل ابن أخيه ، ونوفل ، كل رجل أربعمائة دينار .
قال ابن إسحاق : وكان فداء العباس ، فدى نفسه بمائة أوقية من ذهب . أكثر الأسارى فداء يوم بدر
روى ابن سعد من طريق إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن أبيه قال : لما أسر نوفل يوم بدر قال له النبي صلى الله عليه وسلم : «افد نفسك برماحك التي بجدة» فقال : والله ما علم أحد أن لي بجدة بعد الله غيري ، أشهد أنك رسول الله ، ففدى نفسه بها ، وكانت ألف رمح .
روى البخاري والبيهقي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله : ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه ، قال : «لا والله لا تذرون منه درهما» قال : وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء الرجل أربعة آلاف إلى ألفين إلى ألف ، ومنهم من من عليه؛ لأنه لا مال له .
قال ابن إسحاق :
أسرت سهيلا فلم أبتغ به غيره من جميع الأمم وخندف تعلم أن الفتى
سهيلا فتاها إذا يظلم ضربت بذي الشفر حتى انثنى
وأكرهت نفسي على ذي العلم
أسر عمرو بن أبي سفيان وإطلاقه وكان عمرو بن أبي سفيان بن حرب أسيرا في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر ، أسره علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقيل لأبي سفيان : افد عمرا ابنك ، قال : أيجمع علي دمي ومالي ، قتلوا حنظلة وأفدي عمرا ، دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم . فبينا هو كذلك محبوس بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بني عمرو بن عوف ، ثم أحد بني معاوية معتمرا ومعه مرية له ، وكان شيخا مسلما في غنم له بالنقيع ، فخرج من هناك معتمرا ولا يخشى الذي صنع به ، لم يظن أنه يحبس بمكة ، إنما جاء معتمرا ، وقد كان عهد أن قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير ، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة ، فحبسه بابنه عمرو ، ثم قال أبو سفيان :
أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو لئام أذلة لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا
لو كان سعد يوم مكة مطلقا لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا
بعضب حسام أو بصفراء نبعة تحن إذا ما أنبضت تحفز النبلا
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروا خبره ، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان ، فيفكوا به صاحبهم ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد .
خروج جماعة من الأسرى إلى بدر كرها وقال جماعة من الأسارى لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العباس : إنا كنا مسلمين ، وإنما خرجنا كرها فعلام يؤخذ منا الفداء ؟ فأنزل الله تعالى فيما قالوا : (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسارى) وفي قراءة : الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا إيمانا وإخلاصا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ومن الفداء بأن يضعفه لكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم وإن يريدوا أي الأسارى خيانتك بما أظهروا من القول فقد خانوا الله من قبل قبل بدر بالكفر فأمكن منهم ببدر قتلا وأسرا فليوقعوا مثل ذلك إن عادوا والله عليم بخلقه حكيم [الأنفال : 70 ، 71] في صنعه .
وروى ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، وأبو نعيم في الدلائل ، وإسحاق بن راهويه في مسنده ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والطبراني ، وأبو الشيخ عن طرق ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وابن إسحاق ، وأبو نعيم ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر يوم بدر سبعين من قريش ، منهم العباس وعقيل ، فجعل عليهم الفداء أربعين أوقية من ذهب .
قال سعيد بن جبير : وجعل على العباس مائة أوقية ، وقالوا : أربعين ، وعلى عقيل ثمانين أوقية ، فقال العباس : لقد تركتني فقير قريش ما بقيت ، فأنزل الله تعالى : يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى [الأنفال : 70] الآية . قال العباس حين أنزلت : لوددت أنك كنت أخذت مني أضعافها فأتاني الله خيرا منها أربعين عبدا ، كل في يده ماله يضرب به ، وإني أرجو من الله المغفرة .
وروى البخاري وابن سعد ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمال من البحرين فقال : «انثروه في المسجد» فكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاءه العباس فقال : يا رسول الله أعطني ، إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا ، فقال : «خذ» فحثا في ثوبه ، ثم ذهب يقله فلم يستطع ، فقال : مر بعضهم يرفعه إلي ، قال : «لا» ، قال : فارفعه أنت علي ، قال : «لا» فنثر منه ، ثم ذهب يقله فلم يستطع ، فقال : مر بعضهم يرفعه إلي ، قال : «لا» قال : فارفعه أنت علي ، قال : «لا» فنثر منه ، ثم احتمله على كاهله ، ثم انطلق وهو يقول : إنما آخذ ما وعد الله ، فقد أنجز ، فما زال يتبعه بصره حتى خفي علينا؛ عجبا من حرصه ، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم .
ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من الأسارى يوم بدر من قريش بغير فداء . منهم : أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي ، وكان محتاجا ذا عيال ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، لقد عرفت ما لي من مال ، وإني لذو حاجة وذو عيال فامنن علي ، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ عليه ألا يظاهر عليه أحدا ، فقال أبو عزة في ذلك يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويذكر فضله في قومه :
من مبلغ عني الرسول محمدا بأنك حق والمليك حميد
وأنت امرؤ تدعو إلى الحق والهدى عليك من الله العظيم شهيد
وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة لها درجات سهلة وصعود
فإنك من حاربته لمحارب شقي ومن سالمته لسعيد
ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله تأوب ما بي حسرة وقعود
وذكر ابن عقبة أن المسلمين جهدوا على أبي عزة هذا أن يسلم عندما أسر ببدر ، فقال : لا ، حتى أضرب في الخزرجية يوما إلى الليل .
قال أبو الربيع : وما وقع في شعره ومحاورته رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أعلم له مخرجا إن صح ، إلا أن يكون ذلك من جملة ما قصد به أبو عزة أن يخدع به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعاد على عدو الله ما قصد ، ولم يخدع إلا نفسه وما شعر ، وسيأتي بيان ذلك في غزوة حمراء الأسد ، بعد أحد .
ومنهم : وهب بن عمير بن وهب الجمحي ، قدم أبوه عمير في فدائه ، وحاول الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لاتفاقه مع صفوان بن أمية على ذلك فأظهر الله تعالى رسوله عليه فأعلمه به ، فكان ذلك سبب إسلامه . السادس -بالفوقية- المراد أنهم أخوال أبيه عبد المطلب ، فإن أم العباس هي نتيلة -بالنون والتاء المثناة الفوقية مصغرة- بنت جناب -بالجيم والنون- وليست من الأنصار ، وإنما أرادوا بذلك أن أم عبد المطلب منهم؛ لأنها سلمى بنت عمرو بن أحيحة -بمهملتين مصغرا- وهي من بني النجار ، وإنما قالوا : ابن أختنا لتكون المنة عليهم في إطلاقه ، بخلاف ما لو قالوا : عمك لكانت المنة عليه صلى الله عليه وسلم ، وهذا من قوة الذكاء وحسن الأدب في الخطاب ، وإنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إجابتهم؛ لئلا يكون في الدين نوع محاباة . قول الأنصار : «ائذن لنا فلنترك لابن أختنا»