الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            استشارة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حادثة الإفك قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم استشار -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في فراقها -عائشة-، فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها تلويحا لا تصريحا ، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها وألا يلتفت إلى كلام الأعداء ، فعلي لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس ، فأشار بحسم الداء ، وأسامة لما علم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها وعلم من عفتها وبراءتها وحصانتها وديانتها ما هي فوق ذلك وأعظم منه ، وعرف من كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه ، ومنزلته عنده ، ودفاعه عنه أنه لا يجعل ربة بيته وحبيبته من النساء ، وبنت صديقه بالمنزلة التي أنزلها به أرباب الإفك ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه وأعز عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيا ، وعلم أن الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربها من أن يبتليها بالفاحشة ، وهي تحت رسوله ، ومن قويت معرفته لله ومعرفته لرسوله ، وقدره عند الله في قلبه قال كما قال أبو أيوب وغيره من سادات الصحابة لما سمعوا ذلك : ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) [ النور : 16 ] .

            وتأمل ما في تسبيحهم لله وتنزيههم له في هذا المقام من المعرفة به ، وتنزيهه عما لا يليق به أن يجعل لرسوله وخليله وأكرم الخلق عليه امرأة خبيثة بغيا ، فمن ظن به سبحانه هذا الظن فقد ظن به ظن السوء ، وعرف أهل المعرفة بالله ورسوله أن المرأة الخبيثة لا تليق إلا بمثلها كما قال تعالى : ( الخبيثات للخبيثين ) [ النور : 26 ] ، فقطعوا قطعا لا يشكون فيه أن هذا بهتان عظيم ، وفرية ظاهرة .

            فإن قيل : فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها ، وسأل عنها وبحث واستشار ، وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده وبما يليق به ، وهلا قال : ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) كما قاله فضلاء الصحابة ؟

            فالجواب : أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببا لها ، وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع الأمة إلى يوم القيامة ليرفع بهذه القصة أقواما ويضع بها آخرين ، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا ، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ، واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهرا في شأنها لا يوحى إليه في ذلك شيء لتتم حكمته التي قدرها وقضاها ، وتظهر على أكمل الوجوه ، ويزداد المؤمنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده ، ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا ، ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم ، ولتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبويها ، وتتم نعمة الله عليهم ، ولتشتد الفاقة والرغبة منها ومن أبويها ، والافتقار إلى الله والذل له وحسن الظن به والرجاء له ، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين ، وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق ، ولهذا وفت هذا المقام حقه لما قال لها أبواها : قومي إليه ، وقد أنزل الله عليه براءتها ، فقالت : ( والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي ) . الحكمة من حبس الوحي في حادثة الإفك وأيضا فكان من حكمة حبس الوحي شهرا ، أن القضية محصت وتمحضت ، واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها ، وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع ، فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، والصديق وأهله وأصحابه والمؤمنون ، فورد عليهم ورود الغيث على الأرض أحوج ما كانت إليه ، فوقع منهم أعظم موقع وألطفه ، وسروا به أتم السرور ، وحصل لهم به غاية الهناء ، فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة وأنزل الوحي على الفور بذلك لفاتت هذه الحكم ، وأضعافها بل أضعاف أضعافها .

            إظهار الله منزلته صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عنده ، وأيضا فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عنده وكرامتهم عليه ، وأن يخرج رسوله عن هذه القضية ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه والرد على أعدائه وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه بل يكون هو وحده المتولي لذلك الثائر لرسوله وأهل بيته .

            وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى ، والتي رميت زوجته فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها ، ولم يظن بها سوءا قط وحاشاه وحاشاها ، ولذلك لما استعذر من أهل الإفك قال : ( من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ) ، فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين ، ولكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه وثقته به ، وفى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه حتى جاءه الوحي بما أقر عينه ، وسر قلبه وعظم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناؤه بشأنه .

            ولما جاء الوحي ببراءتها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك ، فحدوا ثمانين ثمانين ، ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك ، فقيل لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة ، والخبيث ليس أهلا لذلك ، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة ، فيكفيه ذلك عن الحد ، وقيل : بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه ، وقيل : الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو ببينة ، وهو لم يقر بالقذف ، ولا شهد به عليه أحد ، فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه ، ولم يشهدوا عليه ، ولم يكن يذكره بين المؤمنين .

            وقيل : حد القذف حق الآدمي لا يستوفى إلا بمطالبته ، وإن قيل : إنه حق لله فلا بد من مطالبة المقذوف ، وعائشة لم تطالب به ابن أبي .

            وقيل : بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا ، وهي تأليف قومه ، وعدم تنفيرهم عن الإسلام ، فإنه كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم ، فلم تؤمن إثارة الفتنة في حده ، ولعله ترك لهذه الوجوه كلها .

            فجلد مسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيرا لهم وتكفيرا ، وترك عبد الله بن أبي ، إذا فليس هو من أهل ذاك .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية