الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قصة صفية بنت حيي بن أخطب النضرية ، رضي الله عنها

            وكان من شأنها أنه لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير من المدينة فذهب عامتهم إلى خيبر ، وفيهم حيي بن أخطب وبنو أبي الحقيق ، وكانوا ذوي أموال وشرف في قومهم ، وكانت صفية إذ ذاك طفلة دون البلوغ ، ثم لما تأهلت للتزويج ، تزوجها بعض بني عمها ، فلما زفت إليه وأدخلت عليه بنى بها ، ومضى على ذلك ليال ، رأت في منامها كأن قمر السماء قد سقط في حجرها ، فقصت رؤياها على ابن عمها ، فلطم وجهها ، وقال : أتتمنين ملك يثرب أن يصير بعلك . فما كان إلا مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصاره إياهم ، فكانت صفية في جملة السبي ، وكان زوجها في جملة القتلى . ولما اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصارت في حوزه وملكه ، وبنى بها بعد استبرائها وحلها ، وجد أثر تلك اللطمة في خدها ، فسألها : " ما شأنها ؟ " فذكرت له ما كانت رأت من تلك الرؤيا الصالحة ، رضي الله عنها وأرضاها .

            وقال ابن إسحاق : فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم القموص - حصن بني أبي الحقيق - أتي بصفية بنت حيي بن أخطب وأخرى معها ، فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على قتلى من قتلى يهود ، فلما رأتهم التي مع صفية ، صاحت ، وصكت وجهها ، وحثت التراب على رأسها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعزبوا عني هذه الشيطانة " . وأمر بصفية فحيزت خلفه ، وألقى عليها رداءه ، فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال - فيما بلغني - حين رأى بتلك اليهودية ما رأى : " أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما " .

            وقال البخاري : حدثنا آدم ، عن شعبة ، عن عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنس بن مالك يقول : سبى النبي صلى الله عليه وسلم صفية ، فأعتقها وتزوجها ، قال ثابت لأنس : ما أصدقها ؟ قال : أصدقها نفسها فأعتقها ، تفرد به البخاري من هذا الوجه .

            وقال أبو داود : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس قال : جمع السبي - يعني بخيبر - فجاء دحية فقال : يا رسول الله ، أعطني جارية من السبي . قال : " اذهب فخذ جارية " . فأخذ صفية بنت حيي ، فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ، أعطيت دحية - قال يعقوب : - صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ؟ ما تصلح إلا لك . قال : " ادع بها " . فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خذ جارية من السبي غيرها " . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وتزوجها ، وأخرجاه من حديث ابن علية

            وروى الطبراني بسند جيد عن حسن بن حرب - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أفاء الله عليه صفية قال لأصحابه : ما تقولون في هذه الجارية ؟ قالوا : نقول : إنك أولى الناس بها وأحقهم ، قال : فإني (أعتقها وأنكحها ) ، وجعلت عتقها مهرها ، فقال رجل : الوليمة يا رسول الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الوليمة أول يوم حق ، والثانية معروف ، والثالثة : فخر وقال أبو داود : حدثنا محمد بن خلاد الباهلي ، حدثنا بهز بن أسد ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت ، عن أنس قال : وقع في سهم دحية جارية جميلة ، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس ، ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها . قال حماد : وأحسبه قال : وتعتد في بيتها - صفية بنت حيي . تفرد به أبو داود .

            وقال البخاري : حدثنا عبد الغفار بن داود ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن . وحدثنا أحمد بن عيسى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري ، عن عمرو مولى المطلب ، عن أنس بن مالك قال : قدمنا خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ، ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب ، وقد قتل زوجها ، وكانت عروسا ، فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ، فخرج بها حتى بلغ بها سد الصهباء حلت ، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم صنع حيسا في نطع صغير ، ثم قال لي : " آذن من حولك " . فكانت تلك وليمته على صفية ، ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب تفرد به دون مسلم .

            وقال البخاري : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال ، يبنى عليه بصفية ، فدعوت المسلمين إلى وليمته ، وما كان فيها من خبز ولا لحم ، وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالأنطاع فبسطت ، فألقى عليها التمر والأقط والسمن ، فقال المسلمون : إحدى أمهات المؤمنين ، أو ما ملكت يمينه ؟ فقالوا : إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين ، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه . فلما ارتحل وطأ لها خلفه ، ومد الحجاب انفرد به البخاري .

            وقال ابن إسحاق : ولما أعرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصفية . بخيبر أو ببعض الطريق ، وكانت التي جملتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك . فبات بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة له .

            وبات أبو أيوب خالد بن زيد ، أخو بني النجار متوشحا سيفه ، يحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويطيف بالقبة ، حتى أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى مكانه قال : ما لك يا أبا أيوب ؟ قال : يا رسول الله ، خفت عليك من هذه المرأة ، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها ، وكانت حديثة عهد بكفر ، فخفتها عليك . فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني اعتذاره - صلى الله عليه وسلم - إليها .

              روى أبو يعلى بأسانيد ورجال الأولى رجال الصحيح إلا جندب بن هلال ، لم يدرك صفية ، عن صفية - رضي الله تعالى عنها - قالت : انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما من الناس أحد أكره إلي منه ، فقال : «إن قومك صنعوا كذا أو كذا » قالت : فما قمت من مقعدي ، وما من الناس أحد أحب إلي منه ، وفي رواية عنها : قالت : ما رأيت قط أحسن خلقا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيته ركب من خيبر على عجز ناقته ليلا ، فجعلت أنعس ، فيضرب رأسي بمؤخر الرحل فيمسني بيده ، ويقول يا هذه ، مهلا يا بنت حيي ، حتى إذا جاء الصهباء ، قال : أما إني أعتذر إليك ، يا صفية بما صنعت بقومك ، إنهم قالوا لي كذا وكذا

              وفيه : جواز عتق الرجل أمته وجعل عتقها صداقا لها ، ويجعلها زوجته بغير إذنها ولا شهود ولا ولي غيره ، ولا لفظ إنكاح ولا تزويج ، كما فعل صلى الله عليه وسلم بصفية ، ولم يقل قط : هذا خاص بي ، ولا أشار إلى ذلك ، مع علمه باقتداء أمته به ، ولم يقل أحد من الصحابة : إن هذا لا يصلح لغيره ، بل رووا القصة ونقلوها إلى الأمة ولم يمنعوهم ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاقتداء به في ذلك ، والله سبحانه لما خصه في النكاح بالموهوبة قال : ( خالصة لك من دون المؤمنين ) [ الأحزاب : 50 ] ، فلو كانت هذه خالصة له من دون أمته لكان هذا التخصيص أولى بالذكر لكثرة ذلك من السادات مع إمائهم ، بخلاف المرأة التي تهب نفسها للرجل لندرته وقلته أو مثله في الحاجة إلى البيان ، ولا سيما والأصل مشاركة الأمة له واقتداؤها به ، فكيف يسكت عن منع الاقتداء به في ذلك الموضع الذي لا يجوز مع قيام مقتضى الجواز ، هذا شبه المحال ، ولم تجتمع الأمة على عدم الاقتداء به في ذلك ، فيجب المصير إلى إجماعهم ، وبالله التوفيق .

            والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك ؛ فإنه يملك رقبتها ومنفعة وطئها وخدمتها ، فله أن يسقط حقه من ملك الرقبة ويستبقي ملك المنفعة أو نوعا منها ، كما لو أعتق عبده وشرط عليه أن يخدمه ما عاش ، فإذا أخرج المالك رقبة ملكه واستثنى نوعا من منفعته ، لم يمنع من ذلك في عقد البيع ، فكيف يمنع منه في عقد النكاح ، ولما كانت منفعة البضع لا تستباح إلا بعقد نكاح أو ملك يمين ، وكان إعتاقها يزيل ملك اليمين عنها ، كان من ضرورة استباحة هذه المنفعة جعلها زوجة وسيدها كان يلي نكاحها وبيعها ممن شاء بغير رضاها ، فاستثنى لنفسه ما كان يملكه منها ، ولما كان من ضرورته عقد النكاح ملكه ؛ لأن بقاء ملكه المستثنى لا يتم إلا به ، فهذا محض القياس الصحيح الموافق للسنة الصحيحة ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية