الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الحمر الإنسية وغيرها مما يذكر

            روى الشيخان عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال : أصابتنا مجاعة ليالي خيبر ، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الإنسية ، فانتحرناها ، فلما غلت القدور ، ونادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن أكفئوا القدور ، ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا .

            وعن أنس - رضي الله عنه - قال : لما كان يوم خيبر ، جاء فقال : يا رسول الله ، فنيت الحمر ، فأمر أبا طلحة فنادى «إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر» رواه عثمان بن سعيد الدارمي بسند صحيح .

            وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن بيع الغنائم حتى تقسم ، وعن الحبالى أن توطأ حتى يضعن ما في بطونهن ، قال : «لا تسق زرع غيرك» ، وعن لحوم الحمر الأهلية ، وعن كل ذي ناب من السباع - رواه الدارقطني .

            وعن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال : غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر ، والناس جياع ، فأصبنا بها حمرا إنسية فذبحناها ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر عبد الرحمن بن عوف فنادى في الناس (أن لحوم الحمر لا تحل لمن يشهد أني رسول الله ) رواه الإمام أحمد ، والشيخان .

            وعن سلمة - رضي الله عنه - قال : أتينا خيبر فحاصرناها حتى أصابتنا مخمصة شديدة :

            يعني الجوع الشديد ، ثم إن الله - تعالى - فتحها علينا . فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم ، أوقدوا نيرانا كثيرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما هذه النيران ؟ على أي شيء توقدون ؟ » قالوا : على لحم ، قال : «على أي لحم» ؟ قالوا : لحم حمر إنسية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أهرقوها ، واكسروا الدنان» فقال رجل : أو نهريقوها ونغسلها ؟ قال «أو ذاك»
            رواه الشيخان ، والبيهقي .

            وروى محمد بن عمر - رحمه الله - تعالى - عن شيوخه : أن عدة الحمر التي ذبحوها ، كانت عشرين أو ثلاثين ، كذا رواه على الشك . قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي مرزوق مولى تجيب ، عن حنش الصنعاني ، قال : غزونا مع رويفع بن ثابت الأنصاري المغرب ، فافتتح قرية من قرى المغرب يقال لها جربة ، فقام فينا خطيبا ، فقال : يأيها الناس ، إني لا أقول فيكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فينا يوم خيبر ، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماؤه زرع غيره ، يعني إتيان الحبالى من السبايا ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه

            قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط ، أنه حدث عن عبادة بن الصامت ، قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين ، وتبر الفضة بالورق العين ؛ وقال : ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين ، وتبر الفضة بالذهب العين

            قال ابن إسحاق : ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدنى الحصون والأموال . لحوم الحمر . فذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عن أكلها . وقد اعتنى البخاري بهذا الفصل ؛ فأورد النهي عنها من طرق جيدة ، وتحريمها مذهب جمهور العلماء سلفا وخلفا ، وهو مذهب الأئمة الأربعة . وقد ذهب بعض السلف - منهم ابن عباس - إلى إباحتها وتنوعت أجوبتهم عن الأحاديث الواردة في النهي عنها ، فقيل : لأنها كانت ظهرا يستعينون بها في الحمولة ، وقيل : لأنها لم تكن خمست بعد . وقيل : لأنها كانت تأكل العذرة . يعني جلالة .

            والصحيح أنه نهي عنها لذاتها ؛ فإن في الأثر الصحيح أنه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ؛ فإنها رجس . فأكفئوها والقدور تفور بها .

            قال ابن إسحاق : حدثني سلام بن كركرة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله - ولم يشهد جابر خيبر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر أذن لهم في لحوم الخيل .

            وفي " صحيح البخاري " عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وعن أكل الثوم . وقد حكى ابن حزم ، عن علي وشريك بن الحنبل ، أنهما ذهبا إلى تحريم البصل والثوم النيئ . والذي نقله الترمذي عنهما الكراهة . فالله أعلم .

            وقد تكلم الناس في الحديث الوارد في " الصحيحين " من طريق الزهري ، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية ، عن أبيهما ، عن أبيه علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر ، وعن لحوم الحمر الأهلية . هذا لفظ " الصحيحين " من طريق مالك وغيره ، عن الزهري وهو يقتضي تقييد تحريم نكاح المتعة بيوم خيبر وهو مشكل من وجهين ؛ أحدهما ، أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يتمتعون بهن ؛ إذ قد حصل لهم الاستغناء بالسباء عن نكاح المتعة . الثاني ، أنه قد ثبت في " صحيح مسلم " عن الربيع بن سبرة بن معبد ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم في المتعة زمن الفتح ، ثم لم يخرج من مكة حتى نهى عنها ، وقال : " إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها ، ثم حرمت ، فيلزم النسخ مرتين ، وهو بعيد . ومع هذا فقد نص الشافعي على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم ، ثم أبيح ثم حرم ، غير نكاح المتعة ، وما حداه على هذا - رحمه الله - إلا اعتماده على هذين الحديثين ، كما قدمناه .

            وقد حكى السهيلي وغيره ، عن بعضهم أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات ، وحرمت ثلاث مرات . وقال آخرون : أربع مرات . وهذا بعيد جدا . والله أعلم . واختلفوا ؛ أي وقت أول ما حرمت ؟ فقيل : في خيبر . وقيل : في عمرة القضاء . وقيل : في عام الفتح . وهو الذي يظهر ، وقيل : في أوطاس . وهو قريب من الذي قبله . وقيل : في تبوك . وقيل : في حجة الوداع . رواه أبو داود .

            وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث علي ، رضي الله عنه ، بأنه وقع فيه تقديم وتأخير .

            وإنما المحفوظ فيه ما رواه الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن الحسن وعبد الله ابني محمد عن أبيهما - وكان حسن أرضاهما في أنفسهما - أن عليا قال لابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة ، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر قالوا : فاعتقد الراوي أن قوله : " خيبر " ظرف للمنهي عنهما ، وليس كذلك ، إنما هو ظرف للنهي عن لحوم الحمر ، فأما نكاح المتعة فلم يذكر له ظرفا ، وإنما جمعه معه ؛ لأن عليا ، رضي الله عنه ، بلغه أن ابن عباس أباح نكاح المتعة ، ولحوم الحمر الأهلية ، كما هو المشهور عنه ، فقال له أمير المؤمنين علي : إنك امرؤ تائه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر . فجمع له النهي ليرجع عما كان يعتقده في ذلك من الإباحة . وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي ، تغمده الله برحمته ، آمين . ومع هذا ما رجع ابن عباس عما كان يذهب إليه من إباحة الحمر والمتعة ، أما النهي عن الحمر فتأوله بأنها كانت حمولتهم ، وأما المتعة فإنما كان يبيحها عند الضرورة في الأسفار ، وحمل النهي على ذلك في حال الرفاهية والوجدان ، وقد تبعه على ذلك طائفة من أصحابه وأتباعهم ، ولم يزل ذلك مشهورا عن علماء الحجاز ، إلى زمن ابن جريج ، وبعده . وقد حكي عن الإمام أحمد بن حنبل رواية كمذهب ابن عباس ، وهي ضعيفة ، وحاول بعض من صنف في الخلاف نقل رواية عن الإمام أحمد بمثل ذلك ، ولا يصح أيضا . والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية