أما زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة الكلبي القضاعي ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن أمه ذهبت تزور أهلها ، فأغارت عليهم خيل بلقين فأخذوه ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد . وقيل : اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، فوهبته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة ، فوجده أبوه ، فاختار المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعتقه وتبناه ، فكان يقال له : زيد بن محمد . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا شديدا ، وكان أول من أسلم من الموالي ، ونزل فيه آيات من القرآن ، منها قوله تعالى : وما جعل أدعياءكم أبناءكم ( الأحزاب : 4 ) وقوله تعالى : ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ( الأحزاب : 5 ) وقوله تعالى : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ( الأحزاب : 40 ) وقوله : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية ( الأحزاب : 37 ) . أجمعوا أن هذه الآيات أنزلت فيه ، ومعنى أنعم الله عليه أي بالإسلام ، وأنعمت عليه أي بالعتق ، وقد تكلمنا عليها في " التفسير " .
والمقصود أن الله تعالى لم يسم أحدا من الصحابة في القرآن غيره ، وهداه إلى الإسلام ، وأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوجه مولاته أم أيمن ، واسمها بركة ، فولدت له أسامة بن زيد ، فكان يقال له : الحب بن الحب ، ثم زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش ، وآخى بينه وبين عمه حمزة بن عبد المطلب ، وقدمه في الإمرة على ابن عمه جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة ، .
وعن وائل بن داود ، سمعت البهي يحدث أن عائشة كانت تقول : . . ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم ، ولو بقي بعده لاستخلفه
وعن ابن عمر ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا ، وأمر عليهم أسامة بن زيد ، فطعن بعض الناس في إمرته ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل ، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إلي ، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده .
وعن مسروق ، عن عائشة قالت : وهذا الحديث فيه غرابة . والله أعلم . لما أصيب زيد بن حارثة ، جيء بأسامة بن زيد ، فأوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخر ، ثم عاد من الغد فوقف بين يديه فقال : " ألاقي منك اليوم ما لقيت منك أمس
وقد تقدم في " الصحيحين " أنه لما ذكر مصابهم وهو ، عليه الصلاة والسلام ، فوق المنبر ، جعل يقول : " أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب ، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله عليهم " . قال : وإن عينيه لتذرفان . وقال : " وما يسرهم أنهم عندنا وفي الحديث الآخر أنه شهد لهم بالشهادة ، فهم ممن يقطع لهم بالجنة .
وقد قال حسان بن ثابت يرثي زيد بن حارثة وابن رواحة :
عين جودي بدمعك المنزور واذكري في الرخاء أهل القبور واذكري مؤتة وما كان فيها
يوم راحوا في وقعة التغوير حين راحوا وغادروا ثم زيدا
نعم مأوى الضريك والمأسور حب خير الأنام طرا جميعا
سيد الناس حبه في الصدور ذاكم أحمد الذي لا سواه
ذاك حزني له معا وسروري إن زيدا قد كان منا بأمر
ليس أمر المكذب المغرور ثم جودي للخزرجي بدمع
سيدا كان ثم غير نزور قد أتانا من قتلهم ما كفانا
فبحزن نبيت غير سرور
وروى البخاري ، عن ابن عمر أنه كان إذا سلم على ابنه عبد الله بن جعفر يقول : السلام عليك يا ابن ذي الجناحين . وبعضهم يرويه عن عمر بن الخطاب نفسه ، والصحيح ما في " الصحيح " عن ابن عمر . قالوا : لأن الله تعالى عوضه عن يديه بجناحين في الجنة .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة وتقدم في حديث أنه ، رضي الله عنه قتل وعمره ثلاث وثلاثون سنة . وقال ابن الأثير في " الغابة " : كان عمره يوم قتل إحدى وأربعين سنة . قال : وقيل غير ذلك .
قلت : وعلى ما قيل : إنه كان أسن من علي بعشر سنين يقتضي أن عمره يوم قتل تسع وثلاثون سنة ، لأن عليا أسلم وهو ابن ثمان سنين على المشهور ، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة ، وهاجر وعمره إحدى وعشرين سنة ، ويوم مؤتة كان في سنة ثمان من الهجرة . والله أعلم . وقد كان يقال لجعفر بعد قتله : الطيار . لما ذكرنا ، وكان كريما جوادا ممدحا ، وكان لكرمه يقال له في حياته : أبو المساكين لإحسانه إليهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، ثنا وهيب ، ثنا خالد ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة قال : ما احتذى النعال ولا انتعل ، ولا ركب المطايا ، ولا لبس الثياب من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب . وهذا إسناد جيد إلى أبي هريرة ، وكأنه إنما يفضله في الكرم ، فأما في الفضيلة الدينية فمعلوم أن الصديق والفاروق بل وعثمان بن عفان أفضل منه ، وأما أخوه علي ، رضي الله عنهما ، فالظاهر أنهما متكافئان ، أو علي أفضل منه .
وإنما أراد أبو هريرة تفضيله في الكرم ، بدليل ما رواه البخاري ، ثنا أحمد بن أبي بكر ، ثنا محمد بن إبراهيم بن دينار أبو عبد الله الجهني ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة أن الناس كانوا يقولون : أكثر أبو هريرة وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حين لا آكل الخمير ، ولا ألبس الحرير ، ولا يخدمني فلان وفلانة ، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع ، وإني كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي ، كي ينقلب بي فيطعمني ، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب ، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته ، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها . تفرد به البخاري .
وقال حسان بن ثابت يرثي جعفرا :
ولقد بكيت وعز مهلك جعفر حب النبي على البرية كلها
ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي من للجلاد لدى العقاب وظلها
بالبيض حين تسل من أغمادها ضربا وإنهال الرماح وعلها
بعد ابن فاطمة المبارك جعفر خير البرية كلها وأجلها
رزءا وأكرمها جميعا محتدا وأعزها متظلما وأذلها
للحق حين ينوب غير تنحل كذبا وأنداها يدا وأقلها
فحشا وأكثرها إذا ما يجتدى فضلا وأبذلها ندى وأبلها
بالعرف غير محمد لا مثله حي من احياء البرية كلها
خلوا بني الكفار عن سبيله
الأبيات ، كما تقدم . وكان أحد الأمراء الشهداء يوم مؤتة كما تقدم ، وقد شجع المسلمين للقاء الروم حين اشتوروا في ذلك ، وشجع نفسه أيضا حتى نزل بعدما قتل صاحباه ، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة ، فهو ممن يقطع له بدخول الجنة . ويروى أنه لما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعره ، حين ودعه ، الذي يقول فيه :فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
وروى حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أن عبد الله بن رواحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فسمعه يقول : " اجلسوا " . فجلس مكانه خارجا من المسجد ، حتى فرغ النبي من خطبته ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " زادك الله حرصا على طواعية الله وطواعية رسوله .
وقال البخاري في " صحيحه " : وقال معاذ : اجلس بنا نؤمن ساعة .
وقد ورد الحديث المرفوع في ذلك ، عن عبد الله بن رواحة بنحو ذلك ، فقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، عن عمارة ، عن زياد النميري ، عن أنس قال : كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول : تعال نؤمن بربنا ساعة . فقال ذات يوم لرجل ، فغضب الرجل فجاء فقال : يا رسول الله ، ألا ترى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله ابن رواحة ، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة وهذا حديث غريب جدا .
وعن عطاء بن يسار أن عبد الله بن رواحة قال لصاحب له : تعال حتى نؤمن ساعة . قال : أولسنا بمؤمنين ؟ قال : بلى ، ولكنا نذكر الله فنزداد إيمانا .
وعن شريح بن عبيد ، أن عبد الله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه فيقول : قم بنا نؤمن ساعة فنجلس في مجلس ذكر . وهذا مرسل من هذين الوجهين ، وقد استقصينا الكلام على ذلك في أول " شرح البخاري " . ولله الحمد والمنة .
وفي " صحيح البخاري " وقد كان من شعراء الصحابة المشهورين ، ومما نقله البخاري من شعره قوله في رسول الله صلى الله عليه وسلم : عن أبي الدرداء قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في حر شديد ، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
وعن الشعبي ، عن النعمان بن بشير قال : أغمي على عبد الله بن رواحة ، بهذا ، فلما مات لم تبك عليه .
وقد قدمنا ما رثاه به حسان بن ثابت مع غيره .
وقال شاعر من المسلمين ممن رجع من مؤتة مع من رجع ، رضي الله عنهم :
كفى حزنا أني رجعت وجعفر وزيد وعبد الله في رمس أقبر
قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم وخلفت للبلوى مع المتغبر
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جعفر : " " . إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء
قال أبو عمر : وروينا عن ابن عمر ، أنه قال : "وجدنا ما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه ، تسعين جراحة ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح " .