الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خطبته - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح

            روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب والبخاري في صحيحه عن مجاهد . وابن أبي شيبة وابن إسحاق عن صفية بنت شيبة ، والبيهقي عن عبد الله بن عمر ، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبيدة قالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من البيت استكف له الناس ، وأشرف على الناس وقد ليط بهم حول الكعبة - وهم جلوس - قام على بابه فقال : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده” ولفظ الإمام أحمد ، ومحمد بن عمر : «الحمد لله الذي صدق وعده ، ثم اتفقوا «ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، يا معشر قريش ماذا تقولون ؟ ماذا تظنون ؟ ” قالوا : نقول خيرا ونظن خيرا ، نبي كريم ، وأخ كريم ، وابن أخ كريم ، وقد قدرت . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فإني أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ؟ [يوسف 92] «اذهبوا فأنتم الطلقاء” فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مأثرة أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين - وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وفي قتيل العصا والسوط والخطأ شبه العمد الدية مغلظة مائة ناقة ، منها أربعون في بطونها أولادها ، ألا وإن الله تعالى - قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها ، كلكم لآدم وآدم من تراب” . ثم تلا هذه الآية : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [الحجرات 13] «يا أيها الناس!! الناس رجلان ، فبر تقي كريم وكافر شقي هين على الله ، ألا إن الله - تعالى - حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، ووضع هذين الأخشبين ، فهي حرام بحرام الله ، لم تحل لأحد كان قبلي ، ولن تحل لأحد كائن بعدي ، لم تحل لي إلا ساعة من نهار يقصرها - صلى الله عليه وسلم - بيده هكذا - ولا ينفر صيدها ، ولا يعضد عضاهها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ، ولا يختلى خلاها” فقال العباس ، وكان شيخا مجربا : إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لا بد لنا منه - للقين وظهور البيوت ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة ثم قال : «إلا الإذخر فإنه حلال ، ولا وصية لوارث ، وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ولا يحل لامرأة أن تعطي من مال زوجها إلا بإذن زوجها ، والمسلم أخو المسلم ، والمسلمون إخوة ، والمسلمون يد واحدة على من سواهم ، تتكافأ دماؤهم ، وهم يرد عليهم أقصاهم ، ويعقل عليهم أدناهم ، ومشدهم على مضعفهم ومثريهم على قاعدهم ، ولا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين ، ولا جلب ولا جنب ، ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم ، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها . والبينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم ، ولا صلاة بعد العصر ، وبعد الصبح ، وأنهاكم عن صيام يومين يوم الأضحى ويوم الفطر ، وعن لبستين ألا يحتبي أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء ، وألا يشتمل الصماء ، فقام رجل فقال : يا رسول الله إني قد عاهرت في الجاهلية ، فقال : من عاهر بامرأة لا يملكها - أو أمة قوم آخرين لا يملكها - ثم ادعى ولده بعد ذلك فإنه لا يجوز له ، ولا يرث ولا يورث - ولا أخالكم إلا قد عرفتموها يا معشر المسلمين كفوا السلاح إلا خزاعة ، عن بني بكر من ضحوة نهار الفتح إلى صلاة العصر منه - فخبطوهم ساعة - وهي الساعة التي أحلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تحل لأحد قبله ، ثم قال لهم : «كفوا السلاح فقام أبو شاة فقال : اكتب لي يا رسول الله ، فقال «اكتبوا لأبي شاة ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم” . وبهذا الحديث وأمثاله استدل من ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة ، كما ذهب إليه جمهور أهل العلم ، ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن الشافعي وأحمد في أحد قوليه ، وسياق القصة أوضح شاهد لمن تأمله لقول الجمهور ، ولما استهجن أبو حامد الغزالي القول بأنها فتحت صلحا ، حكى قول الشافعي أنها فتحت عنوة في " وسيطه " ، وقال : هذا مذهبه .

            قال أصحاب الصلح : لو فتحت عنوة ، لقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الغانمين كما قسم خيبر ، وكما قسم سائر الغنائم من المنقولات ، فكان يخمسها ويقسمها ، قالوا : ولما استأمن أبو سفيان لأهل مكة لما أسلم فأمنهم كان هذا عقد صلح معهم ، قالوا : ولو فتحت عنوة لملك الغانمون رباعها ودورها ، وكانوا أحق بها من أهلها ، وجاز إخراجهم منها ، فحيث لم يحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها بهذا الحكم بل لم يرد على المهاجرين دورهم التي أخرجوا منها ، وهي بأيدي الذين أخرجوهم وأقرهم على بيع الدور وشرائها وإجارتها وسكناها ، والانتفاع بها ، وهذا مناف لأحكام فتوح العنوة ، وقد صرح بإضافة الدور إلى أهلها ، فقال : ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ) .

            قال أرباب العنوة : لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيد بدخول كل واحد داره وإغلاقه بابه وإلقائه سلاحه فائدة ، ولم يقاتلهم خالد بن الوليد حتى قتل منهم جماعة ، ولم ينكر عليه ، ولما قتل مقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل ومن ذكر معهما ، فإن عقد الصلح لو كان قد وقع لاستثني فيه هؤلاء قطعا ، ولنقل هذا وهذا ، ولو فتحت صلحا ، لم يقاتلهم ، وقد قال : ( فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ) ، ومعلوم أن هذا الإذن المختص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو الإذن في القتال ، لا في الصلح ، فإن الإذن في الصلح عام .

            وأيضا فلو كان فتحها صلحا ، لم يقل : إن الله قد أحلها له ساعة من نهار ، فإنها إذا فتحت صلحا ، كانت باقية على حرمتها ، ولم تخرج بالصلح عن الحرمة ، وقد أخبر بأنها في تلك الساعة لم تكن حراما ، وأنها بعد انقضاء ساعة الحرب عادت إلى حرمتها الأولى .

            وأيضا فإنها لو فتحت صلحا لم يعبئ جيشه : خيالتهم ورجالتهم ميمنة وميسرة ، ومعهم السلاح ، وقال لأبي هريرة : ( اهتف لي بالأنصار " ، فهتف بهم فجاءوا ، فأطافوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم " ، ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى : " احصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا " ، حتى قال أبو سفيان : يا رسول الله أبيحت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أغلق بابه فهو آمن ) وهذا محال أن يكون مع الصلح ، فإن كان قد تقدم صلح - وكلا - فإنه ينتقض بدون هذا .

            وأيضا فكيف يكون صلحا ، وإنما فتحت بإيجاف الخيل والركاب ، ولم يحبس الله خيل رسوله وركابه عنها ، كما حبسها يوم صلح الحديبية ، فإن ذلك اليوم كان يوم الصلح حقا ، فإن القصواء لما بركت به قالوا : خلأت القصواء قال : ( ما خلأت ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ) ثم قال : ( والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمة من حرمات الله إلا أعطيتهموها ) .

            وكذلك جرى عقد الصلح بالكتاب والشهود ، ومحضر ملإ من المسلمين والمشركين ، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة ، فجرى مثل هذا الصلح في يوم الفتح ولا يكتب ولا يشهد عليه ، ولا يحضره أحد ، ولا ينقل كيفيته والشروط فيه ، هذا من الممتنع البين امتناعه ، وتأمل قوله ( إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ) كيف يفهم منه أن قهر رسوله وجنده الغالبين لأهلها أعظم من قهر الفيل الذي كان يدخلها عليهم عنوة ، فحبسه عنهم ، وسلط رسوله والمؤمنين عليهم ، حتى فتحوها عنوة بعد القهر وسلطان العنوة ، وإذلال الكفر وأهله ، وكان ذلك أجل قدرا ، وأعظم خطرا ، وأظهر آية وأتم نصرة ، وأعلى كلمة من أن يدخلهم تحت رق الصلح ، واقتراح العدو وشروطهم ، ويمنعهم سلطان العنوة وعزها وظفرها في أعظم فتح فتحه على رسوله ، وأعز به دينه ، وجعله آية للعالمين .

            قالوا : وأما قولكم : إنها لو فتحت عنوة لقسمت بين الغانمين ، فهذا مبني على أن الأرض داخلة في الغنائم التي قسمها الله سبحانه بين الغانمين بعد تخميسها ، وجمهور الصحابة والأئمة بعدهم على خلاف ذلك ، وأن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي تجب قسمتها ، وهذه كانت سيرة الخلفاء الراشدين ، فإن بلالا وأصحابه لما طلبوا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقسم بينهم الأرض التي افتتحوها عنوة ، وهي الشام وما حولها ، وقالوا له خذ خمسها واقسمها ، فقال عمر : هذا غير المال ، ولكن أحبسه فيئا يجري عليكم وعلى المسلمين ، فقال بلال وأصحابه رضي الله عنهم : اقسمها بيننا ، فقال عمر : ( اللهم اكفني بلالا وذويه ) فما حال الحول ومنهم عين تطرف ، ثم وافق سائر الصحابة - رضي الله عنهم - عمر - رضي الله عنه - على ذلك ، وكذلك جرى في فتوح مصر والعراق ، وأرض فارس ، وسائر البلاد التي فتحت عنوة لم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة .

            ولا يصح أن يقال : إنه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم ، فإنهم قد نازعوه في ذلك ، وهو يأبى عليهم ، ودعا على بلال وأصحابه - رضي الله عنهم - وكان الذي رآه وفعله عين الصواب ومحض التوفيق ، إذ لو قسمت لتوارثها ورثة أولئك وأقاربهم ، فكانت القرية والبلد تصير إلى امرأة واحدة ، أو صبي صغير ، والمقاتلة لا شيء بأيديهم ، فكان في ذلك أعظم الفساد وأكبره ، وهذا هو الذي خاف عمر رضي الله عنه منه ، فوفقه الله سبحانه لترك قسمة الأرض ، وجعلها وقفا على المقاتلة ، تجري عليهم فيئا حتى يغزو منها آخر المسلمين ، وظهرت بركة رأيه ويمنه على الإسلام وأهله ، ووافقه جمهور الأئمة . واختلفوا في كيفية إبقائها بلا قسمة ، فظاهر مذهب الإمام أحمد وأكثر نصوصه على أن الإمام مخير فيها تخيير مصلحة ، لا تخيير شهوة ، فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها ، وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها ، وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل الأقسام الثلاثة ، فإنه قسم أرض قريظة والنضير ، وترك قسمة مكة ، وقسم بعض خيبر ، وترك بعضها لما ينوبه من مصالح المسلمين .

            وعن أحمد رواية ثانية ، أنها تصير وقفا بنفس الظهور والاستيلاء عليها من غير أن ينشئ الإمام وقفها ، وهي مذهب مالك .

            وعنه رواية ثالثة : أنه يقسمها بين الغانمين كما يقسم بينهم المنقول ، إلا أن يتركوا حقوقهم منها ، وهي مذهب الشافعي .

            وقال أبو حنيفة : الإمام مخير بين القسمة وبين أن يقر أربابها فيها بالخراج ، وبين أن يجليهم عنها وينفذ إليها قوما آخرين يضرب عليهم الخراج .

            وليس هذا الذي فعل عمر - رضي الله عنه - بمخالف للقرآن ، فإن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي أمر الله بتخميسها وقسمتها ، ولهذا قال عمر : إنها غير المال ، ويدل عليه أن إباحة الغنائم لم تكن لغير هذه الأمة ، بل هو من خصائصها ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته : ( وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ) وقد أحل الله سبحانه الأرض التي كانت بأيدي الكفار لمن قبلنا من أتباع الرسل ، إذا استولوا عليها عنوة ، كما أحلها لقوم موسى ، فلهذا قال موسى لقومه ( ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) [ المائدة : 21 ] فموسى وقومه قاتلوا الكفار ، واستولوا على ديارهم وأموالهم ، فجمعوا الغنائم ، ثم نزلت النار من السماء فأكلتها ، وسكنوا الأرض والديار ولم تحرم عليهم ، فعلم أنها ليست من الغنائم ، وأنها لله يورثها من يشاء .

            وأما مكة ، فإن فيها شيئا آخر يمنع من قسمتها ، ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى ، وهي أنها لا تملك ، فإنها دار النسك ، ومتعبد الخلق ، وحرم الرب تعالى ، الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد ، فهي وقف من الله على العالمين ، وهم فيها سواء ( ومنى مناخ من سبق ) قال تعالى : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ الحج : 25 ] ، والمسجد الحرام هنا ، المراد به الحرم كله كقوله تعالى : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] ، فهذا المراد به الحرم كله ، وقوله سبحانه : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) [ الإسراء : 1 ] ، وفي الصحيح : إنه ( أسري به من بيت أم هانئ ) وقال تعالى : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) [ البقرة : 196 ] ، وليس المراد به حضور نفس موضع الصلاة اتفاقا ، وإنما هو حضور الحرم والقرب منه ، وسياق آية الحج تدل على ذلك فإنه قال : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) وهذا لا يختص بمقام الصلاة قطعا ، بل المراد به الحرم كله ، فالذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد هو الذي توعد من صد عنه ، ومن أراد الإلحاد بالظلم فيه ، فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة ، والمسعى ومنى ، وعرفة ، ومزدلفة ، لا يختص بها أحد دون أحد ، بل هي مشتركة بين الناس ، إذ هي محل نسكهم ومتعبدهم فهي مسجد من الله ، وقفه ووضعه لخلقه ، ولهذا امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى له بيت بمنى ، يظله من الحر ، وقال : ( منى مناخ من سبق ) .

            ولهذا ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة ، ولا إجارة بيوتها ، هذا مذهب مجاهد وعطاء في أهل مكة ، ومالك في أهل المدينة ، وأبي حنيفة في أهل العراق ، وسفيان الثوري ، والإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه .

            وروى الإمام أحمد رحمه الله ، عن علقمة بن نضلة ، قال : ( كانت رباع مكة تدعى السوائب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن ) .

            وروي أيضا عن عبد الله بن عمر : ( من أكل أجور بيوت مكة ، فإنما يأكل في بطنه نار جهنم ، رواه الدارقطني مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه ( إن الله حرم مكة ، فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها .

            وقال الإمام أحمد : حدثنا معمر ، عن ليث ، عن عطاء وطاوس ومجاهد ، أنهم قالوا : يكره أن تباع رباع مكة أو تكرى بيوتها .

            وذكر الإمام أحمد عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال : ( من أكل من كراء بيوت مكة ، فإنما يأكل في بطنه نارا ) .

            وقال أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا حجاج عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر ، قال نهي عن إجارة بيوت مكة وعن بيع رباعها .

            وذكر عن عطاء ، قال : نهي عن إجارة بيوت مكة .

            وقال أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف ، قال : حدثنا عبد الملك قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير أهل مكة ينهاهم عن إجارة بيوت مكة ، وقال إنه حرام .

            وحكى أحمد عن عمر أنه نهى أن يتخذ أهل مكة للدور أبوابا ، لينزل البادي حيث شاء ، وحكى عن عبد الله بن عمر ، عن أبيه أنه نهى أن تغلق أبواب دور مكة ، فنهى من لا باب لداره أن يتخذ لها بابا ، ومن لداره باب أن يغلقه ، وهذا في أيام الموسم .

            قال المجوزون للبيع والإجارة : الدليل على جواز ذلك كتاب الله وسنة رسوله ، وعمل أصحابه وخلفائه الراشدين . قال الله تعالى : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ) [ الحشر : 8 ] ، وقال ( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم ) [ آل عمران : 195 ] ، وقال ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم ) [ الممتحنة : 9 ] فأضاف الدور إليهم وهذه إضافة تمليك ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل له : أين تنزل غدا بدارك بمكة ؟ فقال : ( وهل ترك لنا عقيل من رباع ) ولم يقل : إنه لا دار لي ، بل أقرهم على الإضافة وأخبر أن عقيلا استولى عليها ، ولم ينزعها من يده ، وإضافة دورهم إليهم في الأحاديث أكثر من أن تذكر كدار أم هانئ ، ودار خديجة ، ودار أبي أحمد بن جحش

            وغيرها ، وكانوا يتوارثونها كما يتوارثون المنقول ؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( وهل ترك لنا عقيل من منزل ) وكان عقيل هو ورث دور أبي طالب ، فإنه كان كافرا ، ولم يرثه علي رضي الله عنه لاختلاف الدين بينهما ، فاستولى عقيل على الدور . ولم يزالوا قبل الهجرة وبعدها ، بل قبل المبعث وبعده ، من مات ورثته داره إلى الآن ، وقد باع صفوان بن أمية دارا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأربعة آلاف درهم فاتخذها سجنا ، وإذا جاز البيع والميراث فالإجارة أجوز وأجوز ، فهذا موقف أقدام الفريقين كما ترى ، وحججهم في القوة والظهور لا تدفع ، وحجج الله وبيناته لا يبطل بعضها بعضا ؛ بل يصدق بعضها بعضا ، ويجب العمل بموجبها كلها ، والواجب اتباع الحق أين كان .

            فالصواب القول بموجب الأدلة من الجانبين ، وأن الدور تملك ، وتوهب ، وتورث وتباع ، ويكون نقل الملك في البناء لا في الأرض والعرصة ، فلو زال بناؤه لم يكن له أن يبيع الأرض ، وله أن يبنيها ويعيدها كما كانت ، وهو أحق بها يسكنها ، ويسكن فيها من شاء ، وليس له أن يعاوض على منفعة السكنى بعقد الإجارة ، فإن هذه المنفعة إنما يستحق أن يقدم فيها على غيره ويختص بها لسبقه وحاجته ، فإذا استغنى عنها لم يكن له أن يعاوض عليها ، كالجلوس في الرحاب والطرق الواسعة ، والإقامة على المعادن وغيرها من المنافع والأعيان المشتركة التي من سبق إليها فهو أحق بها ما دام ينتفع ، فإذا استغنى لم يكن له أن يعاوض ، وقد صرح أرباب هذا القول بأن البيع ونقل الملك في رباعها إنما يقع على البناء لا على الأرض ، ذكره أصحاب أبي حنيفة .

            فإن قيل : فقد منعتم الإجارة ، وجوزتم البيع ، فهل لهذا نظير في الشريعة ، والمعهود في الشريعة أن الإجارة أوسع من البيع ، فقد يمتنع البيع ، وتجوز الإجارة ، كالوقف والحر ، فأما العكس فلا عهد لنا به ؟ قيل : كل واحد من البيع والإجارة عقد مستقل غير مستلزم للآخر في جوازه وامتناعه ، وموردهما مختلف ، وأحكامهما مختلفة ، وإنما جاز البيع ؛ لأنه وارد على المحل الذي كان البائع أخص به من غيره ، وهو البناء ، وأما الإجارة فإنما ترد على المنفعة ، وهي مشتركة ، وللسابق إليها حق التقدم دون المعاوضة ، فلهذا أجزنا البيع دون الإجارة ، فإن أبيتم إلا النظير ، قيل هذا المكاتب يجوز لسيده بيعه ، ويصير مكاتبا عند مشتريه ، ولا يجوز له إجارته إذ فيها إبطال منافعه وأكسابه التي ملكها بعقد الكتابة ، والله أعلم .

            على أنه لا يمنع البيع ، وإن كانت منافع أرضها ورباعها مشتركة بين المسلمين ، فإنها تكون عند المشتري كذلك مشتركة المنفعة إن احتاج سكن وإن استغنى أسكن ، كما كانت عند البائع ، فليس في بيعها إبطال اشتراك المسلمين في هذه المنفعة ، كما أنه ليس في بيع المكاتب إبطال ملكه لمنافعه التي ملكها بعقد المكاتبة ، ونظير هذا جواز بيع أرض الخراج التي وقفها عمر رضي الله عنه على الصحيح الذي استقر الحال عليه من عمل الأمة قديما وحديثا ، فإنها تنتقل إلى المشتري خراجية كما كانت عند البائع ، وحق المقاتلة إنما هو في خراجها ، وهو لا يبطل بالبيع ، وقد اتفقت الأمة على أنها تورث ، فإن كان بطلان بيعها لكونها وقفا ، فكذلك ينبغي أن تكون وقفيتها مبطلة لميراثها ، وقد نص أحمد على جواز جعلها صداقا في النكاح ، فإذا جاز نقل الملك فيها بالصداق والميراث والهبة جاز البيع فيها قياسا وعملا وفقها . والله أعلم .

            فإذا كانت مكة قد فتحت عنوة ، فهل يضرب الخراج على مزارعها كسائر أرض العنوة ، وهل يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أم لا ؟ قيل في هذه المسألة قولان لأصحاب العنوة :

            أحدهما : المنصوص المنصور الذي لا يجوز القول بغيره ، أنه لا خراج على مزارعها وإن فتحت عنوة ، فإنها أجل وأعظم من أن يضرب عليها الخراج ، لا سيما والخراج هو جزية الأرض ، وهو على الأرض كالجزية على الرءوس ، وحرم الرب أجل قدرا وأكبر من أن تضرب عليه جزية ، ومكة بفتحها عادت إلى ما وضعها الله عليه من كونها حرما آمنا يشترك فيه أهل الإسلام ، إذ هو موضع مناسكهم ومتعبدهم وقبلة أهل الأرض .

            والثاني - وهو قول بعض أصحاب أحمد - أن على مزارعها الخراج ، كما هو على مزارع غيرها من أرض العنوة ، وهذا فاسد مخالف لنص أحمد رحمه الله ومذهبه ، ولفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين من بعده رضي الله عنهم ، فلا التفات إليه ، والله أعلم .

            وقد بنى بعض الأصحاب تحريم بيع رباع مكة على كونها فتحت عنوة ، وهذا بناء غير صحيح ، فإن مساكن أرض العنوة تباع قولا واحدا ، فظهر بطلان هذا البناء والله أعلم .

            وفيها : تعيين قتل الساب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن قتله حد لا بد من استيفائه ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمن مقيس بن صبابة ، وابن خطل ، والجاريتين اللتين كانتا تغنيان بهجائه ، مع أن نساء أهل الحرب لا يقتلن كما لا تقتل الذرية ، وقد أمر بقتل هاتين الجاريتين ( وأهدر دم أم ولد الأعمى لما قتلها سيدها لأجل سبها النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وقتل كعب بن الأشرف اليهودي ، وقال : ( من لكعب فإنه قد آذى الله ورسوله " ) وكان يسبه ، وهذا إجماع من الخلفاء الراشدين ، ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف ، فإن الصديق - رضي الله عنه - قال لأبي برزة الأسلمي وقد هم بقتل من سبه : ( لم يكن هذا لأحد غير رسول الله ) - صلى الله عليه وسلم - ، ومر عمر - رضي الله عنه - براهب فقيل له : هذا يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : ( لو سمعته لقتلته ، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ) .

            ولا ريب أن المحاربة بسب نبينا أعظم أذية ونكاية لنا من المحاربة باليد ، ومنع دينار جزية في السنة ، فكيف ينقض عهده ويقتل بذلك دون السب ، وأي نسبة لمفسدة منعه دينارا في السنة إلى مفسدة منع مجاهرته بسب نبينا أقبح سب على رءوس الأشهاد ، بل لا نسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسب ، فأولى ما انتقض به عهده وأمانه سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ينتقض عهده بشيء أعظم منه إلا سبه الخالق سبحانه ، فهذا محض القياس ، ومقتضى النصوص ، وإجماع الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وعلى هذه المسألة أكثر من أربعين دليلا .

            فإن قيل : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل عبد الله بن أبي ، وقد قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، ولم يقتل ذا الخويصرة التميمي ، وقد قال له : اعدل فإنك لم تعدل ، ولم يقتل من قال له : يقولون إنك تنهى عن الغي ، وتستخلي به ، ولم يقتل القائل له : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ، ولم يقتل من قال له لما حكم للزبير بتقديمه في السقي : أن كان ابن عمتك ، وغير هؤلاء ممن كان يبلغه عنهم أذى له وتنقص .

            قيل : الحق كان له فله أن يستوفيه ، وله أن يسقطه ، وليس لمن بعده أن يسقط حقه ، كما أن الرب تعالى له أن يستوفي حقه ، وله أن يسقط ، وليس لأحد أن يسقط حقه تعالى بعد وجوبه ، كيف وقد كان في ترك قتل من ذكرتم وغيرهم مصالح عظيمة في حياته ، زالت بعد موته ، من تأليف الناس ، وعدم تنفيرهم عنه ، فإنه لو بلغهم أنه يقتل أصحابه لنفروا ، وقد أشار إلى هذا بعينه ، وقال لعمر لما أشار عليه بقتل عبد الله بن أبي : ( لا يبلغ الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) .

            ولا ريب أن مصلحة هذا التأليف ، وجمع القلوب عليه ، كانت أعظم عنده وأحب إليه من المصلحة الحاصلة بقتل من سبه وآذاه ، ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل ، وترجحت جدا قتل الساب كما فعل بكعب بن الأشرف ، فإنه جاهر بالعداوة والسب ، فكان قتله أرجح من إبقائه ، وكذلك قتل ابن خطل ، ومقيس والجاريتين وأم ولد الأعمى ، فقتل للمصلحة الراجحة وكف للمصلحة الراجحة ، فإذا صار الأمر إلى نوابه وخلفائه لم يكن لهم أن يسقطوا حقه . قال الزهري - فيما رواه عبد الرزاق ، والطبراني : ثم نزل - ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه المفتاح ، فتنحى ناحية من المسجد ، فجلس عند السقاية .

            قال شيوخ محمد بن عمر : وكان - صلى الله عليه وسلم - قد قبض مفتاح السقاية من العباس ، ومفتاح البيت من عثمان .

            وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبيدة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خطبته عدل إلى جانب المسجد فأتي بدلو من ماء زمزم ، فغسل منها وجهه ما يقع منه قطرة إلا في يد إنسان إن كانت قدر ما يحسوها حساها وإلا مسح جلده . والمشركون ينظرون فقالوا : ما رأينا ملكا قط أعظم من اليوم . ولا قوما أحمق من القوم .

            ما في خطبته العظيمة ثاني يوم الفتح من أنواع العلم

            فمنها قوله ( إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ) فهذا تحريم شرعي قدري سبق به قدره يوم خلق هذا العالم ، ثم ظهر به على لسان خليله إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما ، كما في " الصحيح " عنه ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( اللهم إن إبراهيم خليلك حرم مكة ، وإني أحرم المدينة ) فهذا إخبار عن ظهور التحريم السابق يوم خلق السماوات والأرض على لسان إبراهيم ، ولهذا لم ينازع أحد من أهل الإسلام في تحريمها ، وإن تنازعوا في تحريم المدينة ، والصواب المقطوع به تحريمها ، إذ قد صح فيه بضعة وعشرون حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مطعن فيها بوجه .

            ومنها : قوله ( فلا يحل لأحد أن يسفك بها دما ) هذا التحريم لسفك الدم المختص بها ، وهو الذي يباح في غيرها ، ويحرم فيها لكونها حرما ، كما أن تحريم عضد الشجر بها ، واختلاء خلائها ، والتقاط لقطتها ، هو أمر مختص بها ، وهو مباح في غيرها ، إذ الجميع في كلام واحد ، ونظام واحد ، وإلا بطلت فائدة التخصيص ، وهذا أنواع :

            أحدها_ وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله - : أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل ، لا سيما إن كان لها تأويل ، كما امتنع أهل مكة من مبايعة يزيد ، وبايعوا ابن الزبير ، فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهما ، وإحلال حرم الله جائزا بالنص والإجماع ، وإنما خالف في ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعته ، وعارض نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيه وهواه ، فقال : إن الحرم لا يعيذ عاصيا ، فيقال له : هو لا يعيذ عاصيا من عذاب الله ولو لم يعذه من سفك دمه لم يكن حرما بالنسبة إلى الآدميين ، وكان حرما بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم ، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، وقام الإسلام على ذلك ، وإنما لم يعذ مقيس بن صبابة ، وابن خطل ، ومن سمي معهما ، لأنه في تلك الساعة لم يكن حرما ، بل حلا ، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السماوات والأرض . وكانت العرب في جاهليتها يرى الرجل قاتل أبيه ، أو ابنه في الحرم ، فلا يهيجه ، وكان ذلك بينهم خاصية الحرم التي صار بها حرما ، ثم جاء الإسلام ، فأكد ذلك وقواه ، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل ، فقطع الإلحاق ، وقال لأصحابه : ( فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا : " إن الله أذن لرسوله ، ولم يأذن لك ) وعلى هذا فمن أتى حدا أو قصاصا خارج الحرم يوجب القتل ، ثم لجأ إليه ، لم يجز إقامته عليه فيه . وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ( لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه ) .

            وذكر عن عبد الله بن عمر أنه قال : ( لو لقيت فيه قاتل عمر ما ندهته ) وعن ابن عباس ، أنه قال : ( لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه ) وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم ، بل لا يحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافه ، وإليه ذهب أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العراق ، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث .

            وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفى منه في الحرم ، كما يستوفى منه في الحل ، وهو اختيار ابن المنذر ، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان ، ( وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ابن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة ) .

            وبما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا بخربة ) وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس ، لم يعذه الحرم ، ولم يمنعه من إقامته عليه ، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدا أو قصاصا ، لم يعذه الحرم ، ولم يمنع من إقامته عليه ، فكذلك إذا أتاه خارجه ، ثم لجأ إليه ، إذ كونه حرما بالنسبة إلى عصمته ، لا يختلف بين الأمرين وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده ، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئا إلى الحرم ، وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه كالحية والحدأة والكلب العقور ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ) فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة وهي فسقهن ، ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعا من قتلهن ، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل .

            قال الأولون : ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة ، ولا سيما قوله تعالى : ( ومن دخله كان آمنا ) [ آل عمران : 97 ] ، وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى ، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه ، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام ، كما قال تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) [ العنكبوت : 67 ] ، وقوله تعالى : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ) [ القصص : 57 ] وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم : ( ومن دخله كان آمنا ) من النار ، وقول بعضهم : كان آمنا من الموت على غير الإسلام ونحو ذلك ، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم . وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان فيقال أولا : لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه ، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه ، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه ولا بتضمنه ، فهو مطلق بالنسبة إليها ، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع ، لم يقل : إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام فلا يقول محصل : إن قوله تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء : 24 ] مخصوص بالمنكوحة في عدتها ، أو بغير إذن وليها ، أو بغير شهود ، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص ، لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه ، ولو قدر تناول اللفظ لذلك ، لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع ، لئلا يبطل موجبها ، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره ، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه والحال المحرمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أو الحر فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة ؟ وإن قلتم ليس ذلك تخصيصا ، بل تقييدا لمطلقها ، كلنا لكم بهذا الصاع سواء بسواء .

            وأما قتل ابن خطل ، فقد تقدم أنه كان في وقت الحل ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قطع الإلحاق ، ونص على أن ذلك من خصائصه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنما أحلت لي ساعة من نهار ) صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة ، إذ لو كان حلالا في كل وقت لم يختص بتلك الساعة ، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها ، فيما عدا تلك الساعة ، وأما قوله ( الحرم لا يعيذ عاصيا ) فهو من كلام الفاسق عمرو بن سعيد الأشدق ، يرد به حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث كما جاء مبينا في " الصحيح " ، فكيف يقدم على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

            وأما قولكم : لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس ، لم يعذه الحرم منه ، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء ، وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد ، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها ، ومن فرق قال : سفك الدم إنما ينصرف إلى القتل ، ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريم ما دونه ؛ لأن حرمة النفس أعظم والانتهاك بالقتل أشد ، قالوا : ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب ، فلم يمنع منه ، كتأديب السيد عبده ، وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دونها في ذلك ، قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه ، أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل ، قال : والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه ، قالوا : وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب ، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام ، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر ، سوينا بينهما في الحكم ، وبطل الاعتراض ، فتحقق بطلانه على التقديرين .

            قالوا : وأما قولكم : إن الحرم لا يعيذ من انتهك فيه الحرمة ، إذ أتى فيه ما يوجب الحد ، فكذلك اللاجئ إليه ، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما ، فروى الإمام أحمد ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ( من سرق أو قتل في الحل ثم دخل الحرم ، فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ، ولكنه يناشد حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد ، وإن سرق أو قتل في الحرم ، أقيم عليه في الحرم ) وذكر الأثرم ، عن ابن عباس أيضا : ( من أحدث حدثا في الحرم ، أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء ) .

            وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم ، فقال : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) [ البقرة : 191 ] .

            والفرق بين اللاجئ والمنتهك فيه من وجوه :

            أحدها : أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه ، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه ، فإنه معظم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه ، فقياس أحدهما على الآخر باطل .

            الثاني : أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه ، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط السلطان وحرمه ، ثم دخل إلى حرمه مستجيرا .

            الثالث : أن الجاني في الحرم قد انتهك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه ، فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره .

            الرابع : أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد ، وعظم الشر في حرم الله ، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم ، لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله .

            والخامس : أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل ، اللاجئ إلى بيت الرب تعالى ، المتعلق بأستاره ، فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج ، بخلاف المقدم على انتهاك حرمته ، فظهر سر الفرق ، وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه .

            وأما قولكم : إنه حيوان مفسد ، فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور ، فلا يصح القياس ، فإن الكلب العقور طبعه الأذى ، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله ، وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة ، وحرمته عظيمة ، وإنما أبيح لعارض ، فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات ، فإن الحرم يعصمها .

            وأيضا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء ، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها .

            ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يعضد بها شجر ) ، وفي اللفظ الآخر : ( ولا يعضد شوكها ) ، وفي لفظ في " صحيح مسلم " : ( ولا يخبط شوكها ) لا خلاف بينهم أن الشجر البري الذي لم ينبته الآدمي على اختلاف أنواعه مراد من هذا اللفظ ، واختلفوا فيما أنبته الآدمي من الشجر في الحرم على ثلاثة أقوال ، وهي في مذهب أحمد :

            أحدها : أن له قلعه ، ولا ضمان عليه ، وهذا اختيار ابن عقيل ، وأبي الخطاب ، وغيرهما .

            والثاني : أنه ليس له قلعه ، وإن فعل ففيه الجزاء بكل حال ، وهو قول الشافعي ، وهو الذي ذكره ابن البناء في " خصاله " .

            الثالث : الفرق بين ما أنبته في الحل ثم غرسه في الحرم ، وبين ما أنبته في الحرم أولا ، فالأول : لا جزاء فيه ، والثاني : لا يقلع وفيه الجزاء بكل حال ، وهذا قول القاضي .

            وفيه قول رابع : وهو الفرق بين ما ينبت الآدمي جنسه كاللوز والجوز والنخل ونحوه ، وما لا ينبت الآدمي جنسه كالدوح والسلم ونحوه ، فالأول يجوز قلعه ، ولا جزاء فيه ، والثاني : لا يجوز ، وفيه الجزاء .

            قال صاحب " المغني " : والأولى الأخذ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله ، إلا ما أنبت الآدمي من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهلي من الحيوان ، فإننا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله إنسيا دون ما تأنس من الوحشي ، كذا هاهنا ، وهذا تصريح منه باختيار هذا القول الرابع ، فصار في مذهب أحمد أربعة أقوال .

            والحديث ظاهر جدا في تحريم قطع الشوك والعوسج ، وقال الشافعي : لا يحرم قطعه ؛ لأنه يؤذي الناس بطبعه ، فأشبه السباع ، وهذا اختيار أبي الخطاب وابن عقيل ، وهو مروي عن عطاء ومجاهد وغيرهما . وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يعضد شوكها ) وفي اللفظ الآخر : ( لا يختلى شوكها ) صريح في المنع ، ولا يصح قياسه على السباع العادية ، فإن تلك تقصد بطبعها الأذى ، وهذا لا يؤذي من لم يدن منه .

            والحديث لم يفرق بين الأخضر واليابس ، ولكن قد جوزوا قطع اليابس ، قالوا : لأنه بمنزلة الميت ، ولا يعرف فيه خلاف ، وعلى هذا فسياق الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر ، فإنه جعله بمنزلة تنفير الصيد ، وليس في أخذ اليابس انتهاك حرمة الشجرة الخضراء التي تسبح بحمد ربها ، ولهذا غرس النبي - صلى الله عليه وسلم - على القبرين غصنين أخضرين ، وقال : ( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) .

            وفي الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرة بنفسها ، أو انكسر الغصن جاز الانتفاع به ؛ لأنه لم يعضده هو ، وهذا لا نزاع فيه .

            فإن قيل : فما تقولون فيما إذا قلعها قالع ثم تركها ، فهل يجوز له أو لغيره أن ينتفع بها ؟ قيل : قد سئل الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال : من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها ، وقال لم أسمع إذا قطعه ينتفع به .

            وفيه وجه آخر ، أنه يجوز لغير القاطع الانتفاع به ؛ لأنه قطع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به ، كما لو قلعته الريح ، وهذا بخلاف الصيد إذا قتله محرم ، حيث يحرم على غيره ، فإن قتل المحرم له جعله ميتة .

            وقوله في اللفظ الآخر : ( ولا يخبط شوكها ) صريح أو كالصريح في تحريم قطع الورق ، وهذا مذهب أحمد - رحمه الله - وقال الشافعي : له أخذه ، ويروى عن عطاء ، والأول أصح لظاهر النص والقياس ، فإن منزلته من الشجرة منزلة ريش الطائر منه ، وأيضا فإن أخذ الورق ذريعة إلى يبس الأغصان ، فإنه لباسها ووقايتها .

            وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يختلى خلاها ) لا خلاف أن المراد من ذلك ما ينبت بنفسه دون ما أنبته الآدميون ، ولا يدخل اليابس في الحديث ، بل هو للرطب خاصة ، فإن الخلا بالقصر الحشيش الرطب ما دام رطبا ، فإذا يبس فهو حشيش ، وأخلت الأرض كثر خلاها ، واختلاء الخلى : قطعه ، ومنه الحديث ( كان ابن عمر يختلي لفرسه ) أي يقطع لها الخلى ، ومنه سميت المخلاة ، وهي وعاء الخلى ، والإذخر مستثنى بالنص ، وفي تخصيصه بالاستثناء دليل على إرادة العموم فيما سواه .

            فإن قيل : فهل يتناول الحديث الرعي أم لا ؟ قيل : هذا فيه قولان .

            أحدهما : لا يتناوله فيجوز الرعي ، وهذا قول الشافعي .

            والثاني : يتناوله بمعناه وإن لم يتناوله بلفظه ، فلا يجوز الرعي ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والقولان لأصحاب أحمد .

            قال المحرمون : وأي فرق بين اختلائه وتقديمه للدابة وبين إرسال الدابة عليه ترعاه ؟

            قال المبيحون : لما كانت عادة الهدايا أن تدخل الحرم ، وتكثر فيه ، ولم ينقل قط أنها كانت تسد أفواهها ، دل على جواز الرعي .

            قال المحرمون : الفرق بين أن يرسلها ترعى ويسلطها على ذلك ، وبين أن ترعى بطبعها من غير أن يسلطها صاحبها ، وهو لا يجب عليه أن يسد أفواهها ، كما لا يجب عليه أن يسد أنفه في الإحرام عن شم الطيب ، وإن لم يجز له أن يتعمد شمه ، وكذلك لا يجب عليه أن يمتنع من السير ؛ خشية أن يوطئ صيدا في طريقه ، وإن لم يجز له أن يقصد ذلك ، وكذلك نظائره .

            فإن قيل : فهل يدخل في الحديث أخذ الكمأة والفقع ، وما كان مغيبا في الأرض ؟ قيل : لا يدخل فيه لأنه بمنزلة الثمرة ، وقد قال أحمد : يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق .

            وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا ينفر صيدها ) صريح في تحريم التسبب إلى قتل الصيد واصطياده بكل سبب ، حتى إنه لا ينفره عن مكانه ، لأنه حيوان محترم في هذا المكان ، قد سبق إلى مكان ، فهو أحق به ، ففي هذا أن الحيوان المحترم إذا سبق إلى مكان ، لم يزعج عنه .

            وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يلتقط ساقطتها إلا من عرفها ) . وفي لفظ : ( ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ) ، فيه دليل على أن لقطة الحرم لا تملك بحال ، وأنها لا تلتقط إلا للتعريف لا للتمليك ، وإلا لم يكن لتخصيص مكة بذلك فائدة أصلا ، وقد اختلف في ذلك ، فقال مالك وأبو حنيفة : لقطة الحل والحرم سواء ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، وأحد قولي الشافعي ، ويروى عن ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنهم ، وقال أحمد في الرواية الأخرى ، والشافعي في القول الآخر : لا يجوز التقاطها للتمليك ، وإنما يجوز لحفظها لصاحبها ، فإن التقطها عرفها أبدا حتى يأتي صاحبها ، وهذا قول عبد الرحمن بن مهدي ، وأبي عبيد ، وهذا هو الصحيح ، والحديث صريح فيه ، والمنشد المعرف والناشد الطالب ، ومنه قوله :


            إصاخة الناشد للمنشد

            وقد روى أبو داود في " سننه " : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( نهى عن لقطة الحاج ) وقال ابن وهب : يعني يتركها حتى يجدها صاحبها .

            قال شيخنا : وهذا من خصائص مكة ، والفرق بينها وبين سائر الآفاق في ذلك : أن الناس يتفرقون عنها إلى الأقطار المختلفة ، فلا يتمكن صاحب الضالة من طلبها والسؤال عنها ، بخلاف غيرها من البلاد .

            وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة : ( ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يقتل وإما أن يأخذ الدية ) فيه دليل على أن الواجب بقتل العمد لا يتعين في القصاص ، بل هو أحد شيئين ، إما القصاص وإما الدية .

            وفي ذلك ثلاثة أقوال : وهي روايات عن الإمام أحمد .

            أحدها : أن الواجب أحد شيئين ، إما القصاص ، وإما الدية ، والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء : العفو مجانا ، والعفو إلى الدية ، والقصاص ، ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة . والرابع : المصالحة على أكثر من الدية فيه وجهان : أشهرهما مذهبا : جوازه . والثاني : ليس له العفو على مال إلا الدية أو دونها ، وهذا أرجح دليلا ، فإن اختار الدية سقط القود ولم يملك طلبه بعد ، وهذا مذهب الشافعي ، وإحدى الروايتين عن مالك .

            والقول الثاني : أن موجبه القود عينا ، وأنه ليس له أن يعفو إلى الدية إلا برضى الجاني ، فإن عدل إلى الدية ولم يرض الجاني فقوده بحاله ، وهذا مذهب مالك في الرواية الأخرى وأبي حنيفة .

            والقول الثالث : أن موجبه القود عينا مع التخيير بينه وبين الدية وإن لم يرض الجاني ، فإذا عفا عن القصاص إلى الدية فرضي الجاني فلا إشكال ، وإن لم يرض فله العود إلى القصاص عينا ، فإن عفا عن القود مطلقا ، فإن قلنا : الواجب أحد الشيئين فله الدية ، وإن قلنا : الواجب القصاص عينا ، سقط حقه منها .

            فإن قيل : فما تقولون فيما لو مات القاتل ؟ قلنا : في ذلك قولان . أحدهما : تسقط الدية ، وهو مذهب أبي حنيفة ، لأن الواجب عندهم القصاص عينا ، وقد زال محل استيفائه بفعل الله تعالى ، فأشبه ما لو مات العبد الجاني ، فإن أرش الجناية لا ينتقل إلى ذمة السيد ، وهذا بخلاف تلف الرهن وموت الضامن حيث لا يسقط الحق لثبوته في ذمة الراهن والمضمون عنه ، فلم يسقط بتلف الوثيقة .

            وقال الشافعي وأحمد : تتعين الدية في تركته ، لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط ، فوجب الدية لئلا يذهب الورثة من الدم والدية مجانا . فإن قيل : فما تقولون لو اختار القصاص ، ثم اختار بعده العفو إلى الدية هل له ذلك ؟ قلنا : هذا فيه وجهان أحدهما : أن له ذلك ؛ لأن القصاص أعلى ، فكان له الانتقال إلى الأدنى . والثاني : ليس له ذلك ؛ لأنه لما اختار القصاص فقد أسقط الدية باختياره له ، فليس له أن يعود إليها بعد إسقاطها .

            فإن قيل : فكيف تجمعون بين هذا الحديث وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قتل عمدا ، فهو قود ) .

            قيل : لا تعارض بينهما بوجه ، فإن هذا يدل على وجوب القود بقتل العمد ، وقوله : " فهو بخير النظرين " ، يدل على تخييره بين استيفاء هذا الواجب له ، وبين أخذ بدله وهو الدية ، فأي تعارض ؟ وهذا الحديث نظير قوله تعالى : ( كتب عليكم القصاص ) [ البقرة : 178 ] ، وهذا لا ينفي تخيير المستحق له بين ما كتب له ، وبين بدله . والله أعلم . فصل

            وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة " إلا الإذخر " ، بعد قول العباس له : إلا الإذخر . يدل على مسألتين :

            إحداهما : إباحة قطع الإذخر .

            والثانية : أنه لا يشترط في الاستثناء أن ينويه من أول الكلام ، ولا قبل فراغه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان ناويا لاستثناء الإذخر من أول كلامه ، أو قبل تمامه ، لم يتوقف استثناؤه له على سؤال العباس له ذلك ، وإعلامه أنهم لا بد لهم منه لقينهم وبيوتهم ، ونظير هذا استثناؤه - صلى الله عليه وسلم - لسهيل بن بيضاء من أسارى بدر ، بعد أن ذكره به ابن مسعود ، فقال : ( لا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق ) فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام فقال : " إلا سهيل بن بيضاء " ومن المعلوم أنه لم يكن قد نوى الاستثناء في الصورتين من أول كلامه .

            ونظيره أيضا قول الملك لسليمان لما قال : ( لأطوفن الليلة على مائة امرأة ، تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ، فقال له الملك : قل إن شاء الله تعالى ، فلم يقل ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو قال إن شاء الله تعالى ، لقاتلوا في سبيل الله أجمعون ، وفي لفظ لكان دركا لحاجته ) فأخبر أن هذا الاستثناء لو وقع منه في هذه الحالة لنفعه ، ومن يشترط النية يقول لا ينفعه .

            ونظير هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والله لأغزون قريشا ، والله لأغزون قريشا ، ثلاثا ، ثم سكت ، ثم قال : إن شاء الله ) فهذا استثناء بعد سكوت ، وهو يتضمن إنشاء الاستثناء بعد الفراغ من الكلام والسكوت عليه ، وقد نص أحمد على جوازه ، وهو الصواب بلا ريب ، والمصير إلى موجب هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة أولى . وبالله التوفيق .

            وفي القصة : أن رجلا من الصحابة يقال له أبو شاه ، قام فقال : اكتبوا لي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اكتبوا لأبي شاه ) يريد خطبته ، ففيه دليل على كتابة العلم ونسخ النهي عن كتابة الحديث ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه ) وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلط الوحي الذي يتلى بالوحي الذي لا يتلى ، ثم أذن في الكتابة لحديثه .

            وصح عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثه ، وكان مما كتبه صحيفة تسمى الصادقة ، وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب عن أبيه عنه ، وهي من أصح الأحاديث ، وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها في درجة أيوب عن نافع عن ابن عمر ، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية