قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ، عن الزهري ، عن ابن أبي حدرد الأسلمي ، قال : كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد ، فقال لي فتى من بني جذيمة ، وهو في سني ، وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه : يا فتى ، فقلت : ما تشاء ؟ قال : هل أنت آخذ بهذه الرمة ، فقائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضي إليهن حاجة ، تم تردني بعد ، فتصنعوا بي ما بدا لكم ؟ قال : قلت : والله ليسير ما طلبت . فأخذت برمته فقدته بها ، حتى وقف عليهن ، فقال : اسلمي حبيش ، على نفذ من العيش :
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم بحلية أو ألفيتكم بالخوانق ألم يك أهلا أن ينول عاشق
تكلف إدلاج السرى والودائق فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا
أثيبي بود قبل إحدى الصفائق أثيبي بود قبل أن تشحط النوى
وينأى الأمير بالحبيب المفارق فإني لا ضيعت سر أمانة
ولا راق عيني عنك بعدك رائق سوى أن ما نال العشيرة شاغل
عن الود إلا أن يكون التوامق
قال ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر البيتين الآخرين منها له .
قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ، عن الزهري عن ابن أبي حدرد الأسلمي ، ( قال ) قالت : وأنت فحييت سبعا وعشرا ، وترا وثمانيا تترى . قال : ثم انصرفت به . فضربت عنقه .
قال ابن إسحاق : فحدثني أبو فراس بن أبي سنبلة الأسلمي ، عن أشياخ منهم ، عمن كان حضرها منهم قالوا : فقامت إليه حين ضربت عنقه ، فأكبت عليه فما زالت تقبله حتى ماتت عنده . وروى الحافظ البيهقي من طريق الحميدي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق ، أنه سمع رجلا من مزينة يقال له : ابن عصام . عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية قال : إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحدا قال : فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا بذلك ، فخرجنا قبل تهامة ، فأدركنا رجلا يسوق بظعائن ، فقلنا له : أسلم . فقال : وما الإسلام ؟ فأخبرناه به ، فإذا هو لا يعرفه ، قال : أفرأيتم إن لم أفعل ، ما أنتم صانعون ؟ قال : قلنا : نقتلك . فقال : فهل أنتم منظري حتى أدرك الظعائن ؟ قال : قلنا : نعم ، ونحن مدركوك . قال : فأدرك الظعائن فقال : اسلمي حبيش قبل نفاد العيش . فقالت الأخرى : اسلم عشرا ، وتسعا وترا ، وثمانيا تترى ، ثم ذكر الشعر المتقدم إلى قوله :
وينأى الأمير بالحبيب المفارق
. ثم رجع إلينا فقال : شأنكم . قال : فقدمناه ، فضربنا عنقه . قال : فانحدرت الأخرى من هودجها ، فحن?ت عليه حتى ماتت .ثم روى البيهقي من طريق أبي عبد الرحمن النسائي ، ثنا محمد بن علي بن حرب المروزي ، ثنا علي بن الحسين بن واقد ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، . قال عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي : كنت يومئذ في جند خالد ، فأثرنا في أثر ظعن مصعدة يسوق بهن فتية ، فقال : أدركوا أولئك . قال : فخرجنا في أثرهم حتى أدركناهم مضوا ، ووقف لنا غلام شاب على الطريق ، فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا ويقول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا ، وفيهم رجل فقال لهم : إني لست منهم ، إني عشقت امرأة فلحقتها ، فدعوني أنظر إليها نظرة ، ثم اصنعوا بي ما بدا لكم . قال : فإذا امرأة أدماء طويلة ، فقال لها : اسلمي حبيش قبل نفاد العيش . ثم ذكر البيتين بمعناهما . قال : فقالت : نعم فديتك . قال : فقدموه فضربوا عنقه ، فجاءت المرأة فوقعت عليه ، فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر ، فقال : أما كان فيكم رجل رحيم ؟
ارفعن أطراف الذيول وارتعن مشي حييات كأن لم تفزعن
إن تمنع اليوم النساء تمنعن
أقسم ما إن خادر ذو لبده يرزم بين أثلة ووهده
يفرس شبان الرجال وحده بأصدق الغداة مني نجده
فقاتلناه حتى قتلناه ، وأدركنا الظعن فأخذناهن ، فإذا فيهن غلام وضيء الوجه ، به صفرة كالمنهوك ، فربطناه بحبل وقدمناه لنقتله ، فقال لنا : هل لكم في خير ؟ قلنا : ما هو ؟ قال تدركون بي الظعن في أسفل الوادي ، ثم تقتلوني . قلنا : نفعل ، فعارضنا الظعن ، فلما كان بحيث يسمعن الصوت نادى بأعلى صوته : اسلمي حبيش ، على فقد العيش . فأقبلت إليه جارية بيضاء حسانة ، وقالت : وأنت فاسلم على كثرة الأعداء ، وشدة البلاء . قال : سلام عليك دهرا ، وإن بقيت عصرا . قالت : وأنت سلام عليك عشرا ، وشفعا تترى ، وثلاثا وترا . فقال :
إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع هواك لهم مني سوى غلة الصدر
فأنت التي أخليت لحمي من دمي وعظمي ، وأسبلت الدموع على نحري
فقالت له :
ونحن بكينا من فراقك مرة وأخرى وواسيناك في العسر واليسر
وأنت فلم تبعد فنعم فتى الهوى جميل العفاف والمودة في ستر
فقال :
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم بحلية أو ألفيتكم بالخوانق
ألم يك حقا أن ينول عاشق تكلف إدلاج السرى في الودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرة أثيبي بود قبل إحدى الصفائق
أثيبي بود قبل أن تشحط النوى وينأى الأمير بالحبيب المفارق
فإني لا سرا لدي أضعته ولا منظر مذ غبت عني برائق
على أن ما ناب العشيرة شاغل ولا ذكر إلا أن يكون لوامق
فقدموه فضربوا عنقه .
هذا الشعر لعبد الله بن علقمة الكناني ، وكان من جذيمة مع حبيشة بنت حبيش الكنانية أنه خرج مع أمه وهو غلام نحو المحتلم لتزور جارة لها ، وكان لها ابنة اسمها حبيشة بنت حبيش . فلما رآها عبد الله هويها ووقعت في نفسه ، وأقامت أمه عند جارتها ، وعاد عبد الله إلى أهله . ثم عاد ليأخذ أمه بعد يومين ، فوجد حبيشة قد تزينت لأمر كان في الحي ، فازداد بها عجبا ، وانصرفت أمه ، فمشى معها وهو يقول :
وما أدري ، بلى إني لأدري أصوب القطر أحسن أم حبيش
حبيشة والذي خلق البرايا وما إن عندنا للصب عيش
فسمعت أمه فتغافلت عنه . ثم إنه رأى ظبيا على ربوة فقال :
يا أمتا خبريني غير كاذبة وما يريد سئول الحق بالكذب
أتلك أحسن أم ظبي برابية لا بل حبيشة في عيني وفي أربي
فزجرته أمه وقالت : ما أنت وهذا ؟ وأنا قد زوجتك ابنة عمك ، فهي من أجمل تلك النساء . وأتت امرأة عمير فأخبرتها الخبر وقالت : زيني ابنتك له ، ففعلت وأدخلتها عليه ، فأطرق . فقالت أمه : أيهما الآن أحسن ؟ فقال :
إذا غيبت عني حبيشة مرة من الدهر لا أملك عزاء ولا صبرا
كأن الحشا حر السعير تحسه وقود الغضا والقلب مضطرم جمرا
وجعل يراسل الجارية وتراسله ، فعلقته كما علقها ، وأكثر قول الشعر فيها ، فمن ذلك :
حبيشة هل جدي وجدك جامع بشملكم شملي وأهلكم أهلي
وهل أنا ملتف بثوبك مرة بصحراء بين الأليتين إلى النخل
فإن قلت ما قالوا لقد زدتني جوى على أنه لم يبق سر ولا ستر
ولم يك حبي عن نوال بذلته فيسليني عنك التجهم والهجر
وما أنس من الأشياء لا أنس ومقها ونظرتها حتى يغيبني القبر
وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إثر ذلك خالد بن الوليد ، فكان منه ما تقدم ذكره .