الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            قال ابن إسحاق : ثم إن أبا خيثمة رجع بعد ما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما إلى أهله في يوم حار ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه ، قد رشت كل واحدة منهما عريشها ، وبردت فيه ماء ، وهيأت له فيه طعاما ، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء ، في ماله مقيم ! ما هذا بالنصف . ثم قال : والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا زادا . ففعلتا ، ثم قدم ناضحه فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا ، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم . ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كن أبا خيثمة " . فقالوا : يا رسول الله ، هو والله أبو خيثمة . فلما بلغ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : " أولى لك يا أبا خيثمة ! " . ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر ، فقال خيرا ، ودعا له بخير .

            وقد ذكر عروة بن الزبير وموسى بن عقبة قصة أبي خيثمة بنحو من سياق محمد بن إسحاق وأبسط ، وذكر أن خروجه ، عليه السلام ، إلى تبوك كان في زمن الخريف . فالله أعلم .

            قال ابن هشام وقال أبو خيثمة ، واسمه مالك بن قيس ، في ذلك :


            لما رأيت الناس في الدين نافقوا أتيت التي كانت أعف وأكرما     وبايعت باليمنى يدي لمحمد
            فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما     تركت خضيبا في العريش وصرمة
            صفايا كراما بسرها قد تحمما     وكنت إذا شك المنافق أسمحت
            إلى الدين نفسي شطره حيث يمما

            عن عبد الله بن مسعود قال : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف ، فيقولون : يا رسول الله ، تخلف فلان . فيقول : " دعوه ، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه " . حتى قيل : يا رسول الله ، تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره . فقال : " دعوه ، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه " . فتلوم أبو ذر بعيره ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره ، ثم خرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله ، ونظر ناظر من المسلمين ، فقال : يا رسول الله ، إن هذا الرجل ماش على الطريق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كن أبا ذر " . فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله ، هو والله أبو ذر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده " . قال : فضرب الدهر من ضربه ، وسير أبو ذر إلى الربذة فلما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه فقال : إذا مت فاغسلاني وكفناني من الليل ، ثم ضعاني على قارعة الطريق ، فأول ركب يمرون بكم فقولوا : هذا أبو ذر . فلما مات فعلوا به كذلك ، فاطلع ركب ، فما علموا به حتى كادت ركابهم تطأ سريره ، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة فقال : ما هذا ؟ فقيل : جنازة أبي ذر . فاستهل ابن مسعود يبكي ، وقال : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده " . فنزل فوليه بنفسه حتى أجنه . إسناده حسن قلت -ابن القيم رحمه الله تعالى-: وفي هذه القصة نظر ، فقد ذكر أبو حاتم بن حبان في " صحيحه " وغيره في قصة وفاته ، عن مجاهد ، عن إبراهيم بن الأشتر ، عن أبيه ( عن أم ذر قالت : لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت فقال : ما يبكيك ؟ فقلت : ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض ، وليس عندي ثوب يسعك كفنا ، ولا يدان لي في تغييبك ، قال : أبشري ولا تبكي ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم : ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ، يشهده عصابة من المسلمين ، وليس أحد من أولئك النفر إلا وقد مات في قرية وجماعة ، فأنا ذلك الرجل ، فوالله ما كذبت ولا كذبت فأبصري الطريق ، فقلت : أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق ، فقال اذهبي فتبصري ، قالت : فكنت أسند إلى الكثيب أتبصر ثم أرجع فأمرضه ، فبينا أنا وهو كذلك إذ أنا برجال على رحالهم كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم ، قالت : فأشرت إليهم فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي فقالوا : يا أمة الله ما لك ؟ قلت : امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه ، قالوا : ومن هو ؟ قلت : أبو ذر ، قالوا : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : نعم ، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه ، فقال لهم : أبشروا ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم : ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين ، وليس من أولئك النفر رجل إلا وقد هلك في جماعة ، والله ما كذبت ولا كذبت ، إنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي أو لها ، فإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا ، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال ، إلا فتى من الأنصار قال : أنا يا عم أكفنك في ردائي هذا ، وفي ثوبين من عيبتي من غزل أمي ، قال : أنت فكفني ، فكفنه الأنصاري ، وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان )

            التالي السابق


            الخدمات العلمية