الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            إسلام بني الحارث بن كعب على يدي خالد بن الوليد لما سار إليهم  

            [ دعوة خالد للناس إلى الإسلام وإسلامهم ]

            قال ابن إسحاق : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى ، سنة عشر ، إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا ، فإن استجابوا فاقبل منهم ، وإن لم يفعلوا فقاتلهم . فخرج خالد حتى قدم عليهم ، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ، ويدعون إلى الإسلام ، ويقولون : أيها الناس ، أسلموا تسلموا . فأسلم الناس ، ودخلوا فيما دعوا إليه ، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبذلك كان أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا .

            [ كتاب خالد إلى الرسول يسأله رأيه في البقاء أو المجيء ]

            ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من خالد بن الوليد ، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، يا رسول الله صلى الله عليك ، فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب ، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام ، وأن أدعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا أقمت فيهم ، وقبلت منهم ، وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه ، وإن لم يسلموا قاتلتهم . وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام ، كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعثت فيهم ركبانا ، قالوا : يا بني الحارث ، أسلموا تسلموا ، فأسلموا ولم يقاتلوا ، وأنا مقيم بين أظهرهم ، آمرهم بما أمرهم الله به وأنهاهم عما نهاهم الله عنه ، وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته . [ كتاب الرسول إلى خالد يأمره بالمجيء   ]

            فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد . سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو . أما بعد ، فإن كتابك جاءني مع رسولك تخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم ، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام ، وشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبد الله ورسوله ، وأن قد هداهم الله بهداه ، فبشرهم وأنذرهم ، وأقبل وليقبل معك وفدهم ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .

            [ قدوم خالد مع وفدهم على الرسول ]

            فأقبل خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب ، منهم قيس بن الحصين ذي الغصة ، ويزيد بن عبد المدان ، ويزيد بن المحجل ، وعبد الله بن قراد الزيادي ؛ وشداد بن عبد الله القناني ، وعمرو بن عبد الله الضبابي .

            [ حديث وفدهم مع الرسول ]

            فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهم ، قال : من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند ، قيل : يا رسول الله ، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب ؛ فلما وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلموا عليه ، وقالوا : نشهد أنك رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم الذين إذا زجروا استقدموا ، فسكتوا ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثانية ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثالثة ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الرابعة ، فقال يزيد بن عبد المدان : نعم ، يا رسول الله ، نحن الذين إذا زجروا استقدموا ، قالها أربع مرار ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن خالدا لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا ، لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم ؛ فقال يزيد بن عبد المدان : أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا ، قال : فمن حمدتم ؟ قالوا : حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك يا رسول الله ؛ قال : صدقتم . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية ؟ قالوا : لم نكن نغلب أحدا ؛ قال : بلى ، قد كنتم تغلبون من قاتلكم ؛ قالوا : كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله إنا كنا نجتمع ولا نفترق ، ولا نبدأ أحدا بظلم ، قال : صدقتم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني الحارث بن كعب قيس بن الحصين . فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال ، أو في صدر ذي القعدة ، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر ، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورحم وبارك ، ورضي وأنعم . [ بعث الرسول عمرو بن حزم بعهده إليهم   ]

            وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ، ليفقههم في الدين ، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ، ويأخذ منهم صدقاتهم وكتب له كتابا عهد إليه فيه عهده ، وأمره فيه بأمره : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا بيان من الله ورسوله ، يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كله ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله ، وأن يبشر الناس بالخير ، ويأمرهم به ، ويعلم الناس القرآن ، ويفقههم فيه ، وينهى الناس ، فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم ، والذي عليهم ، ويلين للناس في الحق ، ويشتد عليهم في الظلم ، فإن الله كره الظلم ، ونهى عنه ، فقال : ألا لعنة الله على الظالمين ويبشر الناس بالجنة وبعملها ، وينذر الناس النار وعملها ، ويستألف الناس حتى يفقهوا في الدين ، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته ، وما أمر الله به ، والحج الأكبر : الحج الأكبر ، والحج الأصغر : هو العمرة . وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير ، إلا أن يكون ثوبا يثني طرفيه على عاتقيه ؛ وينهى الناس أن يحتبي أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء ، وينهى أن يعقص أحد شعر رأسه في قفاه ، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر ، وليكن دعواهم إلى الله عز وجل وحده لا شريك له ، فمن لم يدع إلى الله ، ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف ، حتى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له ، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ويمسحون برءوسهم كما أمرهم الله ، وأمر بالصلاة لوقتها ، وإتمام الركوع والسجود والخشوع ، ويغلس بالصبح ، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس ، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة ، والمغرب حين يقبل الليل ، لا يؤخر حتى تبدو النجوم في السماء ، والعشاء أول الليل ؛ وأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها ، والغسل عند الرواح إليها ؛ وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله ؛ وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر ؛ وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل عشرين أربع شياه ، وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ، جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها ، شاة ، فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة ، فمن زاد خيرا فهو خير له ؛ وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ، ودان بدين الإسلام ، فإنه من المؤمنين ، له مثل ما لهم ، وعليه مثل ما عليهم ، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها ، وعلى كل حالم : ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، دينار واف أو عوضه ثيابا . فمن أدى ذلك ، فإن له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن منع ذلك ، فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا ؛ صلوات الله على محمد ، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته . [قال محمد بن سعد في الطبقات : وكتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن عهدا يعلمه فيه شرائع الإسلام وفرائضه وحدوده ، وكتب أبي .

            قال ابن عبد البر : عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الخزرجي من بني مالك بن النجار ، وذكر في نسبه خلافا . يكنى أبا الضحاك ، ولم يشهد بدرا ، وأول مشاهده الخندق . واستعمله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على نجران ، وهم بلحارث بن كعب ، وهو ابن سبع عشرة سنة ، ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن ويأخذ صدقاتهم ، وذلك سنة عشر بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد فأسلموا ، وكتب له كتابا فيه الفرائض والسنن والصدقات والديات . ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين ، وقيل : إن عمرو بن حزم توفي في خلافة عمر - رضي الله تعالى عنه- وفي ذلك خلاف ذكره ابن عبد البر ، وقال : روى عنه ابنه محمد والنضر بن عبد الله السلمي وزياد بن نعيم الحضرمي ] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية