الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            بعث أسامة بن زيد إلى أرض فلسطين

            قال ابن إسحاق : ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر ، وضرب على الناس بعثا إلى الشام ، وأمر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين حيث قتل زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة فلما كان يوم الإثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لغزو الروم وأمرهم بالجد ، ثم دعا من الغد يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر أسامة بن زيد

            فقال : «يا أسامة سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى [موضع] مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش فأغر صباحا على أهل أبنى وحرق عليهم وأسرع السير تسبق الأخبار فإن أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك» .

            فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فحم وصدع .

            فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده .

            ثم قال : «اغز بسم الله في سبيل الله فقاتل من كفر بالله ، اغزوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا تتمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم ولكن قولوا اللهم أكفناهم بما شئت واكفف بأسهم عنا ، فإن لقوكم قد جلبوا وضجوا فعليكم بالسكينة والصمت ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وقولوا اللهم إنا نحن عبيدك وهم عبادك ، نواصينا ونواصيهم بيدك وإنما تغنيهم أنت واعلموا أن الجنة تحت البارقة» .

            فخرج أسامة رضي الله تعالى عنه بلوائه [معقودا] ، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي ، وعسكر بالجرف فلم يبق أحد من [وجوه] المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله تعالى عنهم في رجال آخرين من الأنصار ، عدة مثل قتادة بن النعمان ، وسلمة بن أسلم بن حريش . ويقال أبو بكر الصديق . استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم للصلاة - فلما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا هنالك ، فلما مات عظم الخطب واشتد الحال ونجم النفاق بالمدينة ، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة ، وامتنع آخرون من أداء الزكاة إلى الصديق ، ولم تبق الجمعة تقام في بلد سوى مكة والمدينة ، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحق ، كما في " صحيح البخاري " عن ابن عباس ، وقد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على الإسلام ، لم يفروا ولا ارتدوا .

            والمقصود أنه لما وقعت هذه الأمور أشار كثير من الناس على الصديق أن لا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم الآن مما جهز بسببه في حال السلامة ، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب ، فامتنع الصديق من ذلك ، وأبى أشد الإباء إلا أن ينفذ جيش أسامة ، وقال : والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أن الطير تخطفنا ، والسباع من حول المدينة ، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين ، لأجهزن جيش أسامة . فجهزه وأمر الحرس يكونون حول المدينة ، فكان خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح ، والحالة تلك ، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم ، وقالوا : ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة . فغابوا أربعين يوما ، ويقال : سبعين يوما . ثم آبوا سالمين غانمين ، ثم رجعوا فجهزهم حينئذ مع الأحياء الذين أخرجهم لقتال المرتدة ، ومانعي الزكاة ، .

            قال سيف بن عمر عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : لما بويع أبو بكر ، وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه قال : ليتم بعث أسامة . وقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة ، ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية ، والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية ; لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وقلتهم ، وكثرة عدوهم ، فقال له الناس : إن هؤلاء جل المسلمين ، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك ، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين . فقال : والذي نفس أبي بكر بيده ، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته . وقد روي هذا عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، ومن حديث القاسم وعمرة ، عن عائشة قالت : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة واشرأب النفاق ، والله لقد نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها ، وصار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم معزى مطيرة في حفش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة ، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحظها وعنائها وفضلها . ثم ذكرت عمر فقالت : من رأى عمر علم أنه خلق غنى للإسلام ، كان والله أحوزيا نسيج وحده ، قد أعد للأمور أقرانها .

            وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا محمد بن علي الميموني ، ثنا الفريابي ، ثنا عباد بن كثير ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله ، ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة ، فقيل له : مه يا أبا هريرة . فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام ، فلما نزل بذي خشب قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتدت العرب حول المدينة ، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله فقالوا : يا أبا بكر ، رد هؤلاء ، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة ؟ ! فقال : والذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم . فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا : لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم . فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ، ورجعوا سالمين ، فثبتوا على الإسلام .

            وروى سيف بن عمر عن أبي ضمرة وأبي عمرو وغيرهما ، عن الحسن البصري ، أن أبا بكر لما صمم على تجهيز جيش أسامة قال بعض الأنصار لعمر : قل له فليؤمر علينا غير أسامة . فذكر له عمر ذلك ، فيقال : إنه أخذ بلحيته وقال : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ، أأؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! ثم نهض بنفسه إلى الجرف فاستعرض جيش أسامة وأمرهم بالمسير ، وسار معهم ماشيا ، وأسامة راكبا ، وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصديق ، فقال أسامة يا خليفة رسول الله ، إما أن تركب وإما أن أنزل . فقال : والله لا نزلت ولا أركب ، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ! فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له ، وسبعمائة درجة ترفع له ، وسبعمائة سيئة تمحى عنه . ثم استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب - وكان مكتتبا في جيشه - فأطلقه له ، فلهذا كان عمر لا يلقاه بعد ذلك إلا قال : السلام عليك أيها الأمير . فخرج سريعا فوطئ بلادا هادية لم يرجعوا عن الإسلام جهينة وغيرها من قضاعة . حتى نزل وادي القرى ، فسار إلى أبنى في عشرين ليلة . فقدم له عين له من بني عذرة يدعى حريثا ، فانتهى إلى أبنى ، ثم عاد فلقي أسامة على ليلتين من أبنى فأخبره أن الناس غارون ولا جموع لهم وحثهم على السير قبل اجتماعهم . فسار إلى أبنى وعبأ أصحابه ثم شن عليهم الغارة فقتل من أشرف له وسبى من قدر عليهم وحرق بالنار منازلهم وحرثهم ونخلهم فصارت أعاصير من الدواخين وأجال الخيل في عرصاتهم وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم . وكان أسامة على فرس أبيه سبحة وقتل قاتل أبيه في الغارة ، وأسهم للفرس سهمين وللفارس سهما وأخذ لنفسه مثل ذلك .

            فلما أمسى أمر الناس بالرحيل ثم أغذ السير فورد وادي القرى في تسع ليال ثم بعث بشيرا إلى المدينة بسلامتهم ثم قصد بعد في السير فسار إلى المدينة ستا حتى رجع إلى المدينة ولم يصب أحد من المسلمين . وخرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونهم سرورا بسلامتهم ودخل على فرس أبيه سبحة واللواء أمامه يحمله بريدة بن الحصيب حتى انتهى إلى باب المسجد فدخل فصلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته . وبلغ هرقل وهو بحمص ما صنع أسامة فبعث رابطة يكونون بالبلقاء فلم تزل هناك حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية