الباب السادس والثلاثون في إرساله- صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنهما- إلى اليمن
قال في زاد المعاد : وبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن ، عند انصرافه من تبوك ، وقيل : بل سنة عشر من ربيع الأول داعيين إلى الإسلام ، فأسلم عامة أهلها طوعا من غير قتال ، ثم بعث بعد ذلك علي بن أبي طالب إليهم ووافاه بمكة من حجة الوداع . حدثنا موسى ، ثنا أبو عوانة ، ثنا عبد الملك ، عن أبي بردة قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن . قال : وبعث كل واحد منهما على مخلاف . قال : واليمن مخلافان . ثم قال : " يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا " . - وفي رواية : " وتطاوعا ولا تختلفا " - فانطلق كل واحد منهما إلى عمله قال : وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه ، وكان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا ، فسلم عليه ، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه ، فإذا هو جالس وقد اجتمع إليه الناس ، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه ، فقال له معاذ : يا عبد الله بن قيس ، أيم هذا ؟ قال : هذا رجل كفر بعد إسلامه . قال : لا أنزل حتى يقتل . قال : إنما جيء به لذلك ، فانزل . قال : ما أنزل حتى يقتل . فأمر به فقتل ، ثم نزل فقال : يا عبد الله كيف تقرأ القرآن ؟ قال : أتفوقه تفوقا . قال : فكيف تقرأ أنت يا معاذ ؟ قال : أنام أول الليل ، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم ، فأقرأ ما كتب الله لي ، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي . انفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه .
ثم قال البخاري : ثنا إسحاق ، ثنا خالد ، عن الشيباني ، عن سعيد بن أبي بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تصنع بها فقال : " ما هي ؟ " قال البتع والمزر - فقلت لأبي بردة : ما البتع ؟ قال : نبيذ العسل ، والمزر نبيذ الشعير - فقال : " كل مسكر حرام " . رواه جرير وعبد الواحد ، عن الشيباني ، عن أبي بردة . ورواه مسلم من حديث سعيد بن أبي بردة .
وقال البخاري : حدثنا حبان ، أنبأنا عبد الله ، عن زكريا بن إسحاق ، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي ، عن أبي معبد مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : " إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك ، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك ، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك ، فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " . وقد أخرجه بقية الجماعة من طرق متعددة .
وقال الإمام أحمد : ثنا أبو المغيرة ، ثنا صفوان ، حدثني راشد بن سعد ، عن عاصم بن حميد السكوني ، عن معاذ بن جبل قال : لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه يوصيه ، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته ، فلما فرغ قال : " يا معاذ ، إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا ، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري " . فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم التفت بوجهه نحو المدينة فقال : " إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا " .
3 ثم رواه عن أبي اليمان ، عن صفوان بن عمرو ، عن راشد بن سعد ، عن عاصم بن حميد السكوني ، أن معاذا لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه يوصيه ، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته ، فلما فرغ قال : " يا معاذ ، إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا ، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري " . فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لا تبك يا معاذ ، للبكاء أوان ، البكاء من الشيطان " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، ثنا صفوان ، حدثني أبو زياد يحيى بن عبيد الغساني ، عن يزيد بن قطيب ، عن معاذ أنه كان يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال : " لعلك أن تمر بقبري ومسجدي ، فقد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم ، يقاتلون على الحق مرتين ، فقاتل بمن أطاعك منهم من عصاك ، ثم يفيئون إلى الإسلام ، حتى تبادر المرأة زوجها ، والولد والده ، والأخ أخاه ، فانزل بين الحيين ; السكون والسكاسك " .
وهذا الحديث فيه إشارة وظهور وإيماء إلى أن معاذا ، رضي الله عنه ، لا يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، وكذلك وقع ; فإنه أقام باليمن حتى كانت حجة الوداع ، ثم كانت وفاته عليه الصلاة والسلام بعد أحد وثمانين يوما من يوم الحج الأكبر .
فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن معاذ ، أنه لما رجع من اليمن قال : يا رسول الله رأيت رجالا باليمن يسجد بعضهم لبعض ، أفلا نسجد لك ؟ قال : " لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " . وقد رواه أحمد ، عن ابن نمير ، عن الأعمش سمعت أبا ظبيان يحدث عن رجل ، من الأنصار عن معاذ بن جبل ، قال : أقبل معاذ من اليمن فقال : يا رسول الله ، إني رأيت رجالا . فذكر معناه . فقد دار على رجل مبهم ، ومثله لا يحتج به ، لا سيما وقد خالفه غيره ممن يعتد به فقالوا : لما قدم معاذ من الشام . كذلك رواه أحمد . قال أحمد : ثنا سليمان بن داود الهاشمي ، ثنا أبو بكر - يعني ابن عياش - ثنا عاصم ، عن أبي وائل ، عن معاذ قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا ، أو عدله من المعافر ، وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة ، مسنة ، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعا حوليا ، وأمرني فيما سقت السماء العشر ، وما سقي بالدوالي نصف العشر . .
وقال أحمد : ثنا معاوية ، عن عمرو وهارون بن معروف قالا : ثنا عبد الله بن وهب ، عن حيوة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سلمة بن أسامة ، عن يحيى بن الحكم ، أن معاذا قال : والصحيح أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كما تقدم في الحديث . بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق أهل اليمن ، فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا - قال هارون : والتبيع الجذع أو الجذعة - ومن كل أربعين مسنة ، فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين ، وما بين الستين والسبعين ، وما بين الثمانين والتسعين ، فأبيت ذلك ، وقلت لهم : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا ، ومن كل أربعين مسنة ، ومن الستين تبيعين ، ومن السبعين مسنة وتبيعا ، ومن الثمانين مسنتين ، ومن التسعين ثلاثة أتباع ، ومن المائة مسنة وتبيعين ، ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعا ، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع . قال : وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا آخذ فيما بين ذلك شيئا ، إلا أن يبلغ مسنة أو جذعا . وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها . وهذا من أفراد أحمد ، وفيه دلالة على أنه قدم بعد مصيره إلى اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وقد قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي بن كعب بن مالك قال : كان معاذ بن جبل شابا جميلا سمحا ، من خير شباب قومه ، لا يسأل شيئا إلا أعطاه ، حتى كان عليه دين أغلق ماله ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكلم غرماءه ، ففعل ، فلم يضعوا له شيئا ، فلو ترك لأحد بكلام أحد ، لترك لمعاذ بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يبرح أن باع ماله ، وقسمه بين غرمائه . قال : فقام معاذ ولا مال له . قال : فلما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن ليجبره . قال : فكان أول من تجر في هذا المال معاذ . قال : فقدم على أبي بكر الصديق من اليمن وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء عمر إلى معاذ فقال : هل لك أن تطيعني فتدفع هذا المال إلى أبي بكر ، فإن أعطاكه فاقبله ؟ قال : فقال معاذ : لم أدفعه إليه ، وإنما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجبرني ؟! فلما أبى عليه انطلق عمر إلى أبي بكر فقال : أرسل إلى هذا الرجل فخذ منه ودع له . فقال أبو بكر : ما كنت لأفعل ، إنما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجبره ، فلست آخذا منه شيئا . قال : فلما أصبح معاذ انطلق إلى عمر فقال : ما أراني إلا فاعل الذي قلت ، إني رأيتني البارحة في النوم - فيما يحسب عبد الرزاق قال - أجر إلى النار وأنت آخذ بحجزتي . قال : فانطلق إلى أبي بكر بكل شيء جاء به ، حتى جاءه بسوطه ، وحلف له أنه لم يكتمه شيئا . قال : فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : هو لك لا آخذ منه شيئا .
وقد رواه ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك فذكره ، إلا أنه قال : حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على طائفة من اليمن أميرا ، فمكث حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قدم في خلافة أبي بكر ، وخرج إلى الشام .
قال البيهقي : وقد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه بمكة مع عتاب بن أسيد ليعلم أهلها ، وأنه شهد غزوة تبوك فالأشبه أن بعثه إلى اليمن كان بعد ذلك . والله أعلم . ثم ذكر البيهقي لقصة منام معاذ شاهدا من طريق الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله وأنه كان من جملة ما جاء به عبيد فأتى بهم أبا بكر ، فلما رد الجميع عليه رجع بهم ، ثم قام يصلي ، فقاموا كلهم يصلون معه ، فلما انصرف . قال : لمن صليتم ؟ قالوا : لله . قال : فأنتم له عتقاء ، فأعتقهم .
وقال الإمام أحمد : ثنا محمد بن جعفر ، ثنا شعبة ، عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة ، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص ، عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال : " كيف تصنع إن عرض لك قضاء ؟ " قال : أقضي بما في كتاب الله . قال : " فإن لم يكن في كتاب الله ؟ " قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " . قال : أجتهد برأيي ، لا آلو . قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله " . وقد روى الإمام أحمد ، عن محمد بن جعفر ويحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن عمرو بن أبي حكيم ، عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود الدئلي قال : كان معاذ باليمن ، فارتفعوا إليه في يهودي مات وترك أخا مسلما ، فقال معاذ : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الإسلام يزيد ولا ينقص " . فورثه . ورواه أبو داود ، من حديث ابن بريدة به . وقد حكي هذا المذهب عن معاوية بن أبي سفيان ورواه يحيى بن يعمر القاضي ، وطائفة من السلف ، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه ، وخالفهم الجمهور ، ومنهم الأئمة الأربعة وأصحابهم ، محتجين بما ثبت في " الصحيحين " عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر " .
والمقصود أن إليه تدفع الصدقات ، كما دل عليه حديث ابن عباس المتقدم . وقد كان بارزا للناس يصلي بهم الصلوات الخمس ، كما قال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب ، ثنا شعبة ، عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن عمرو بن ميمون ، أن معاذا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ : معاذا ، رضي الله عنه ، كان قاضيا للنبي صلى الله عليه وسلم باليمن ، وحاكما في الحروب ، ومصدقا ; واتخذ الله إبراهيم خليلا ( النساء : 125 ) . فقال رجل من القوم : لقد قرت عين أم إبراهيم . انفرد به البخاري .