الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            وسمع عمر الخبر فأتى منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فيه ، فأرسل إليه أن اخرج إلي . فأرسل إليه : إني مشتغل . فقال عمر : قد حدث أمر لابد لك من حضوره . فخرج إليه ، فأعلمه الخبر ، فمضيا مسرعين نحوهم ومعهما أبو عبيدة . حتى لقيا منهم رجلان صالحان : عويم بن ساعد ، وهو الذي قال فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما سئل : من الذين قال الله لهم : [ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- : «نعم المرء عويم بن ساعدة» ] ومعن بن عدي ، ويقال : إنه لما بكى الناس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين توفاه الله تعالى ، وقالوا : وددنا والله أن متنا قبله ، إنا نخشى أن نفتن بعده ، فقال معن : إني والله ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا ، وقتل رحمه الله شهيدا يوم اليمامة ، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم ، وقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا : فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم ، قال : قلت : والله لنأتينهم . قال عمر : فأتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت : من هذا ؟ فقالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما له ؟ فقالوا : وجع . فلما جلسنا تشهد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو له أهل ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا ، وقد دفت دافة من قومكم ، قال : وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم ، وقد كنت زورت كلاما أقوله لهم ، فلما دنوت أقول أسكتني أبو بكر ، وتكلم بكل ما أردت أن أقول ، فحمد الله وقال : إن الله قد بعث فينا رسولا شهيدا على أمته ليعبدوه ويوحدوه ، وهم يعبدون من دونه آلهة شتى من حجر وخشب ، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم . فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والمواساة له ، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم ، وكل الناس لهم مخالف زار عليهم ، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم ، فهم أول من عبد الله في هذه الأرض ، وآمن بالله وبالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ، لا ينازعهم إلا ظالم ، ولم يترك شيئا أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا ذكره ، وقال : لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو سلك الناس واديا ، وسلكت الأنصار واديا ، سلكت وادي الأنصار " ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد : " قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم " فقال له سعد : صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء . لا تفاوتون بمشورة ، ولا تقضى دونكم الأمور .

            فقام حباب بن المنذر بن الجموح فقال : يا معشر الأنصار ، املكوا عليكم أمركم ، فإن الناس في ظلكم ، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم ، ولا يصدروا إلا عن رأيكم ، أنتم أهل العز وأولو العدد والمنعة وذوو البأس ، وإنما ينظر الناس ما تصنعون ، ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم ، أبى هؤلاء إلا ما سمعتم ، فمنا أمير ومنكم أمير .

            فقال عمر : هيهات ، لا يجتمع اثنان في قرن ! والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم ، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم ، ولنا بذلك الحجة الظاهرة ، من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته ؟ !

            فقال الحباب بن المنذر : يا معشر الأنصار ، املكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم فأجلوهم عن هذه البلاد ، وتولوا عليهم هذه الأمور ، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم ، فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين ، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ! أنا أبو شبل في عرينة الأسد ، والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة .

            فقال عمر : إذا ليقتلك الله ! فقال : بل إياك يقتل .

            فقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار ، إنكم أول من نصر ، فلا تكونوا أول من بدل وغير ! فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال : يا معشر الأنصار ، إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين ، وسابقة في الدين ، ما أردنا به إلا رضى ربنا ، وطاعة نبينا ، والكدح لأنفسنا ، فما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك ، ولا نبتغي به الدنيا ، ألا إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - من قريش ، وقومه أولى به ، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر ، فاتقوا الله ولا تخالفوهم .

            فقال أبو بكر : هذا عمر وأبو عبيدة ، فإن شئتم فبايعوا . فقالا : والله لا نتولى هذا الأمر عليك ، وأنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، وهي أفضل دين المسلمين ، ابسط يدك نبايعك . فلما ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه ، فناداه الحباب بن المنذر : عقتك عقاق ! أنفست على ابن عمك الإمارة ؟ فقال : لا والله ، ولكني كرهت أن أنازع القوم حقهم .

            ولما رأت الأوس ما صنع بشير وما تطلب الخزرج من تأمير سعد - قال بعضهم لبعض ، وفيهم أسيد بن حضير ، وكان نقيبا : والله لئن وليتها الخزرج مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم فيها نصيبا أبدا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر . فبايعوه ، فانكسر على سعد والخزرج ما أجمعوا عليه ، وأقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب .

            ثم تحول سعد بن عبادة إلى داره فبقي أياما ، وأرسل إليه ليبايع ، فإن الناس قد بايعوا ، فقال : لا والله ، حتى أرميكم بما في كنانتي ، وأخضب سنان رمحي ، وأضرب بسيفي ، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني ، ولو اجتمع معكم الجن والأنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي . فقال عمر : لا تدعه حتى يبايع . فقال بشير بن سعد : إنه قد لج وأبى ، ولا يبايعكم حتى يقتل ، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته ، ولا يضركم تركه ، وإنما هو رجل واحد . فتركوه .

            وجاءت أسلم فبايعت ، فقوي أبو بكر بهم ، وبايع الناس بعد .

            قيل إن عمر بن حريث قال لسعيد بن زيد : متى بويع أبو بكر ؟ قال : يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة .

            وذكر الواقدي عن أشياخه: أن أبا بكر رضي الله عنه بويع يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

            وقال ابن إسحاق: بويع أبو بكر رضي الله عنه يوم الثلاثاء من الغد الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سقيفة بني ساعدة . وقال الزهري : بقي علي وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتى ماتت فاطمة - رضي الله عنها - فبايعوه . فائدة جليلة وهي مبايعة علي بن أبي طالب إما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة . وهذا حق فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه ، كما سنذكره وخرج معه إلى ذي القصة ، لما خرج الصديق شاهرا سيفه يريد قتال أهل الردة كما سنبينه قريبا ، ولكن لما حصل من فاطمة رضي الله عنها عتب على الصديق بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تعلم بما أخبرها به الصديق رضي الله عنه ، أنه قال " لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة " فحجبها وغيرها من أزواجه وعمه عن الميراث بهذا النص الصريح ، كما سنبين ذلك في موضعه ، فسألته أن ينظر علي زوجها في صدقة الأرض التي بخيبر وفدك ، فلم يجبها إلى ذلك ; لأنه رأى أن حقا عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق البار الراشد التابع للحق رضي الله عنه فحصل لها - وهي امرأة من البشر ليست بواجبة العصمة - عتب وتغضب ، ولم تكلم الصديق حتى ماتت رضي الله عنها ، واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء ، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر ، رضي الله عنه كما سنذكره من " الصحيحين " وغيرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى ، مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويزيد ذلك صحة قول موسى بن عقبة في " مغازيه " ، عن سعد بن إبراهيم حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر ، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير ثم خطب أبو بكر ، واعتذر إلى الناس وقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة ، ولا سألتها الله في سر ولا علانية . فقبل المهاجرون مقالته ، وقال علي والزبير : ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة ، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها ، إنه لصاحب الغار وإنا لنعرف شرفه وخبره ، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي . إسناد جيد ، ولله الحمد .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية