الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر ردة أهل مهرة ، فإنهم لما فرغوا من عمان كما ذكرنا ، سار عكرمة بالناس إلى بلاد مهرة ، بمن معه من الجيوش ، ومن أضيف إليها حتى اقتحم على مهرة بلادها ، فوجدهم جندين ; على أحدهما - وهم الأكثر - أمير يقال له : المصبح . أحد بني محارب ، وعلى الجند الآخر أمير يقال له : شخريت . وهما مختلفان ، وكان هذا الاختلاف رحمة على المؤمنين ، فراسل عكرمة شخريت ، فأجابه وانضاف إلى عكرمة ، فقوي بذلك المسلمون ، وضعف جأش المصبح ، فبعث إليه عكرمة يدعوه إلى الله وإلى السمع والطاعة ، فاغتر بكثرة من معه ومخالفة لشخريت ، فتمادى في طغيانه ، فسار إليه عكرمة بمن معه من الجنود ، فاقتتلوا مع المصبح أشد من قتال دبا المتقدم ، ثم فتح الله بالنصر والظفر ، ففر المشركون وقتل المصبح وقتل خلق كثير من قومه ، وغنم المسلمون أموالهم ، فكان في جملة ما غنموا ألفا نجيبة ، فخمس عكرمة ذلك كله ، وبعث بخمسه إلى الصديق مع شخريت ، وأخبره بما فتح الله عليه ، والبشارة مع رجل يقال له : السائب ، من بني عابد من مخزوم ، وقد قال في ذلك رجل يقال له علجوم :


            جزى الله شخريتا وأفناء هاشم وفرضم إذ سارت إلينا الحلائب     جزاء مسيء لم يراقب لذمة
            ولم يرجها فيما يرجى الأقارب     أعكرم لولا جمع قومي وفعلهم
            لضاقت عليكم بالفضاء المذاهب     وكنا كمن اقتاد كفا بأختها
            وحلت علينا في الدهور النوائب



            ذكر خبر ردة اليمن

            لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى مكة وأرضها عتاب بن أسيد ، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة ، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص ومالك بن عوف النضري ، وعثمان على المدن ، ومالك على أهل الوبر ، وبصنعاء فيروز وداذويه يسانده ، وقيس بن مكشوح ، وعلى الجند يعلى بن أمية ، وعلى مأرب أبو موسى ، وكان منهم مع الأسود الكذاب ما ذكرناه . فلما أهلك الله الأسود العنسي بقي طائفة من أصحابه يترددون بين صنعاء ونجران ، لا يأوون إلى أحد . ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - على أثر ذلك فارتد الناس ، فكتب عتاب بن أسيد إلى أبي بكر يعرفه خبر من ارتد في عمله ، وبعث عتاب أخاه خالدا إلى أهل تهامة ، وبها جماعة من مدلج وخزاعة وأبناء كنانة .

            وأما كنانة عليهم جندب بن سلمى ، فالتقوا بالأبارق ، فقتلهم خالد وفرقهم ، وأفلت جندب بن سلمى وعاد ، وبعث عثمان بن أبي العاص بعثا إلى شنوءة وبها جماعة من الأزد ، وبجيلة ، وخثعم ، وعليهم حميضة بن النعمان ، واستعمل عثمان على السرية عثمان بن أبي ربيعة ، فالتقوا بشنوءة ، فانهزم الكفار وتفرقوا ، وهرب حميضة في البلاد .

            وأما الأخابث من العك فكانوا أول منتقض بتهامة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تجمع عك والأشعريون ، وأقاموا على الأعلاب ، فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة ومعه مسروق وقومه من عك ممن لم يرتد ، فالتقوا على الأعلاب ، فانهزمت عك ومن معهم ، وقتلوا قتلا ذريعا ، وكان ذلك فتحا عظيما . وورد كتاب أبي بكر على الطاهر يأمره بقتالهم ، وسماهم الأخابث ، وسمى طريقهم طريق الأخابث ، فبقي الاسم عليهم إلى الآن .

            وأما أهل نجران فلما بلغهم موت النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسلوا وفدا ليجددوا عهدهم مع أبي بكر ، فكتب بذلك كتابا .

            وأما بجيلة فإن أبا بكر رد جرير بن عبد الله ، وأمره أن يستنفر من قومه من ثبت على الإسلام ، ويقاتل بهم من ارتد عن الإسلام ، وأن يأتي خثعم فيقاتل من خرج غضبا لذي الخلصة ، فخرج جرير وفعل ما أمره ، فلم يقم له أحد إلا نفر يسير ، فقتلهم وتتبعهم .

            ( حميضة بالحاء المهملة المضمومة ، والضاد المعجمة ) . ذكر خبر ردة اليمن ثانية

            وكان ممن ارتد ثانية قيس بن عبد يغوث بن مكشوح ، وذلك أنه لما بلغه موت النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل في قتل فيروز وجشنس ، وكتب أبو بكر إلى عمر ذي مران ، وإلى سعيد ذي زود ، وإلى الكلاع ، وإلى حوشب ذي ظليم ، وإلى شهر ذي نياف يأمرهم بالتمسك بدينهم والقيام بأمر الله ، ويأمرهم بإعانة الأبناء على من ناوأهم ، والسمع لفيروز ، وكان فيروز وداذويه وقيس قبل ذلك متساندين . فلما سمع قيس بذلك كتب إلى ذي الكلاع وأصحابه يدعوهم إلى قتل الأبناء وإخراج أهلهم من اليمن ، فلم يجيبوه ولم ينصروا الأبناء . فاستعد لهم قيس ، وكاتب أصحاب الأسود المترددين في البلاد سرا ، يدعوهم ليجتمعوا معه ، فجاءوا إليه ، فسمع بهم أهل صنعاء ، فقصد قيس فيروز وداذويه ، فاستشارهما في أمره خديعة منه ليلبس عليهما ، فاطمأنا إليه ، ثم إن قيسا صنع من الغد طعاما ودعا داذويه وفيروز وجشنس ، فخرج داذويه فدخل عليه فقتله ، وجاء إليه فيروز ، فلما دنا منه سمع امرأتين تتحدثان ، فقالت إحداهما : هذا مقتول كما قتل داذويه ، فخرج . فطلبه أصحاب قيس ، فخرج يركض ، ولقيه جشنس فرجع معه ، فتوجها نحو جبل خولان ، وهم أخوال فيروز ، فصعدا الجبل ، ورجعت خيول قيس فأخبروه ، فثار بصنعاء وما حولها ، وأتته خيول الأسود .

            واجتمع إلى فيروز جماعة من الناس ، وكتب إلى أبي بكر يخبره ، واجتمع إلى قيس عوام قبائل من كتب أبو بكر إلى رؤسائهم ، واعتزل الرؤساء ، وعمد قيس إلى الأنباء ففرقهم ثلاث فرق : من أقام أقر عياله ، والذين ساروا مع فيروز فرق عيالهم فرقتين ، فوجه إحداها إلى عدن ليحملوا في البحر ، وحمل الأخرى في البر ، وقال لهم جميعهم : الحقوا بأرضكم .

            فلما علم فيروز ذلك جد في حربه وتجرد لها ، وأرسل إلى بني عقيل بن ربيعة بن عامر يستمدهم ، وإلى عك يستمدهم ، فركبت عقيل ، فلقوا خيل قيس بن عامر ومعهم عيالات الأبناء الذين كان قد سيرهم قيس ، فاستنقذوهم وقتلوا خيل قيس . وسارت عك فاستنقذوا طائفة أخرى من عيالات الأبناء ، وقتلوا من معهم من أصحاب قيس ، وأمدت عقيل وعك فيروز بالرجال . فلما أتته أمدادهم خرج بهم وبمن اجتمع عنده ، فلقوا قيسا دون صنعاء ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، وانهزم قيس وأصحابه ، وتذبذب أصحاب العنسي وقيس معهم فيما بين صنعاء ونجران .

            قيل : وكان فروة بن مسيك قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلما ، فاستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات مراد ، ومن نازلهم ونزل دارهم .

            وكان عمرو بن معدي كرب الزبيدي قد فارق قومه سعد العشيرة ، وانحاز إليهم وأسلم معهم ، فلما ارتد العنسي ومعه مذحج ارتد عمرو فيمن ارتد ، وكان عمرو مع خالد بن سعيد بن العاص ، فلما ارتد سار إليه خالد فلقيه ، فضربه خالد على عاتقه فهرب منه ، وأخذ خالد سيفه الصمصامة وفرسه ، فلما ارتد عمرو جعله العنسي بإزاء فروة ، فامتنع كل واحد منهما من البراح لمكان صاحبه . فبينما هم كذلك قدم عكرمة بن أبي جهل أبين من مهرة ، وقد تقدم ذكر قتال مهرة ، ومعه بشر كثير من مهرة وغيرهم ، فاستبرى النخع وحمير ، وقدم أيضا المهاجر بن أبي أمية في جمع من مكة والطائف وبجيلة مع جرير إلى نجران ، فانضم إليه فروة بن مسيك المرادي ، فأقبل عمرو بن معدي كرب مستجيبا ، حتى دخل على المهاجر من غير أمان ، فأوثقه المهاجر ، وأخذ قيسا أيضا فأوثقه ، وسيرهما إلى أبي بكر ، فقال : يا قيس ، قتلت عباد الله ، واتخذت المرتدين وليجة من دون المؤمنين ! فانتفى قيس من أن يكون قارف من أمر داذويه شيئا ، وكان قتله سرا ، فتجافى له عن دمه ، وقال لعمرو : أما تستحي أنك كل يوم مهزوم أو مأسور ؟ لو نصرت هذا الدين لرفعك الله ، فقال : لا جرم ، لأقبلن ولا أعود . ورجعا إلى عشائرهما . فسار المهاجر من نجران والتقت الخيول على أصحاب العنسي ، فاستأمنوا فلم يؤمنهم ، وقتلهم بكل سبيل ، ثم سار إلى صنعاء فدخلها ، وكتب إلى أبي بكر بذلك .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية