الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر من توفي في هذه السنة .

            أعني سنة إحدى عشرة
            ، من الأعيان والمشاهير ، وذكرنا معهم من قتل باليمامة ; لأنها كانت في سنة إحدى عشرة على قول بعضهم ، وإن كان المشهور أنها في ربيع سنة ثنتي عشرة .

            وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

            توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
            محمد بن عبد الله ، سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ، وذلك في ربيعها الأول يوم الاثنين ثاني عشره على المشهور ، كما قدمنا بيانه وبعده بستة أشهر - على الأشهر -

            وفاة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

            توفيت ابنته ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي ، أبو محمد خطيب الأنصار ، ويقال له أيضا : خطيب النبي صلى الله عليه وسلم . وقد ثبت عنه ، عليه الصلاة والسلام ، أنه بشره بالجنة وأنه بشره بالشهادة - وقد تقدم الحديث في دلائل النبوة - فقتل يوم اليمامة شهيدا ، وكانت راية الأنصار يومئذ بيده . وروى الترمذي بإسناد على شرط مسلم ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله قال : نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس .

            وقال أبو القاسم الطبراني : بإسناده عن عطاء الخراساني قال : قدمت المدينة فسألت عمن يحدثني بحديث ثابت بن قيس بن شماس ، فأرشدوني إلى ابنته ، فسألتها ، فقالت : سمعت أبي يقول : لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يحب كل مختال فخور [ لقمان : 18 ] . اشتدت على ثابت وغلق عليه بابه ، وطفق يبكي ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله فأخبره بما كبر عليه منها ، وقال : أنا رجل أحب الجمال ، وأنا أسود قومي . فقال : إنك لست منهم ، بل تعيش بخير وتموت بخير ، ويدخلك الله الجنة . فلما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول [ الحجرات : 2 ] . فعل مثل ذلك ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه ، فأخبره بما كبر عليه منها ، وأنه جهير الصوت ، وأنه يتخوف أن يكون ممن حبط عمله ، فقال : إنك لست منهم ؛ بل تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، ويدخلك الله الجنة . فلما استنفر أبو بكر المسلمين إلى أهل الردة واليمامة ومسيلمة الكذاب ، سار ثابت بن قيس فيمن سار ، فلما لقوا مسيلمة وبني حنيفة هزموا المسلمين ثلاث مرات ، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة : ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فجعلا لأنفسهما حفرة فدخلا فيها ، فقاتلا حتى قتلا . قالت : وأري رجل من المسلمين ثابت بن قيس في منامه ، فقال : إني لما قتلت بالأمس مر بي رجل من المسلمين ، فانتزع مني درعا نفيسة ، ومنزله في أقصى العسكر ، وعند منزله فرس يستن في طوله ، وقد أكفأ على الدرع برمة ، وجعل فوق البرمة رحلا ، وائت خالد بن الوليد ، ، فليبعث إلى درعي فليأخذها ، فإذا قدمت على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه أن علي من الدين كذا ، ولي من المال كذا ، وفلان من رقيقي عتيق ، وإياك أن تقول : هذا حلم ، فتضيعه . قال : فأتى خالدا فوجه إلى الدرع فوجدها كما ذكر ، وقدم على أبي بكر ، فأخبره فأنفذ أبو بكر وصيته بعد موته ، فلا نعلم أحدا جازت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس بن شماس . ولهذا الحديث وهذه القصة شواهد أخر

            حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران المخزومي

            ومنهم حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران المخزومي ، له هجرة ، ويقال : أسلم عام الفتح . وهو جد سعيد بن المسيب ، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسميه سهلا فامتنع وقال : لا أغير اسما سمانيه أبواي . قال سعيد : فلم تزل الحزونة فينا . استشهد يوم اليمامة وقتل معه أيضا ابناه عبد الرحمن ووهب ، وابن ابنه حكيم بن وهب بن حزن .

            داذويه الفارسي

            وممن استشهد في هذه السنة داذويه الفارسي ، أحد أمراء اليمن الذين قتلوا الأسود العنسي ، قتله غيلة قيس بن مكشوح حين ارتد قبل أن يرجع قيس إلى الإسلام ، فلما عنفه الصديق على قتله أنكر ذلك ، فقبل علانيته وإسلامه .

            زيد بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي أبو محمد

            ومنهم مسيلمة بن حبيب الحنفي اليمامي الكذاب لعنه الله .

            قدم المدينة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه بني حنيفة ، وقد وقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه وهو يقول : إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته . فقال له : لو سألتني هذا العود - لعرجون في يده - ما أعطيتكه ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله ، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام كأن في يده سوارين من ذهب ، فأهمه شأنهما ، فأوحى الله إليه في المنام أن انفخهما ، فنفخهما فطارا ، فأولهما بكذابين يخرجان ، وهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة . وهكذا وقع فإنهما ذهبا وذهب أمرهما ; أما الأسود فذبح في داره ، وأما مسيلمة فعقره الله على يدي وحشي بن حرب ، رماه بالحربة ، فأنفذه كما تعقر الإبل ، وضربه أبو دجانة على رأسه ففلقه ، وذلك بعقر داره في الحديقة التي يقال لها : حديقة الموت . وقد وقف عليه خالد بن الوليد وهو طريح ، أراه إياه من بين القتلى مجاعة بن مرارة ، ويقال : كان أصيفر أخينس . وقيل : كان ضخما أسمر اللون كأنه جمل أورق . ويقال : إنه مات وعمره مائة وأربعون سنة . فالله أعلم .

            وقد قتل قبله وزيراه ومستشاراه ، لعنهما الله ، وهما محكم بن الطفيل الذي يقال له : محكم اليمامة . قتله عبد الرحمن بن أبي بكر ، رماه بسهم وهو يخطب قومه يأمرهم بمصالح حربهم فقتله ، والآخر نهار بن عنفوة الذي يقال له : الرجال بن عنفوة ، وكان ممن أسلم ، ثم ارتد وصدق مسيلمة ، لعنهما الله ، وشهد له أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر له أنه قد أشرك في الأمر معه ، وقد كذب الرجال ، لعنه الله ، في هذه الشهادة ، وقد رزق الله زيد بن الخطاب قتله قبل أن يقتل زيد ، رضي الله عنه .

            ومما يدل على كذب الرجال في هذه الشهادة الضرورة في دين الإسلام ، وما رواه البخاري وغيره أن مسيلمة ، لعنه الله ، كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم ، من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك ، أما بعد ، فإني قد أشركت في الأمر معك ، فلك المدر ولي الوبر . ويروى : فلكم نصف الأرض ولنا نصفها ، ولكن قريشا قوم يعتدون . فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين . وقد قال الله تعالى : صلاتهم يحافظون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون [ الأنعام : 93 ] . فمسيلمة والأسود وأمثالهما ، لعنهم الله ، أحق الناس دخولا في هذه الآية الكريمة ، وأولاهم بهذه العقوبة العظيمة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية