الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            مرض أبي بكر رضي الله عنه

            فصل

            في مرضه ووفاته، ووصيته، واستخلافه عمر

            أخرج سيف والحاكم عن ابن عمر قال: (كان سبب موت أبي بكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كمد، فما زال جسمه يحري حتى مات).

            يحري: أي ينقص.

            وأخرج ابن سعد والحاكم بسند صحيح عن ابن شهاب : أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة أهديت لأبي بكر، فقال الحارث لأبي بكر: (ارفع يدك يا خليفة رسول الله، والله إن فيها لسم سنة، وأنا وأنت نموت في يوم واحد)، فرفع يده، فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة.

            وأخرج الحاكم عن الشعبي قال: (ماذا نتوقع من هذه الدنيا الدنية وقد سم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسم أبو بكر ؟ !)

            وأخرج الواقدي والحاكم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (كان أول بدء مرض أبي بكر: أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوما باردا، فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى صلاة، وتوفي ليلة الثلاثاء، لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة). استخلافه لعمر رضي الله عنهما

            وأخرج ابن سعد وابن أبي الدنيا عن أبي السفر، قال: (دخلوا على أبي بكر في مرضه، فقالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك؟ قال: قد نظر إلي، فقالوا: ما قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد).

            وأخرج الواقدي من طرق: (أن أبا بكر لما ثقل.. دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب؟ فقال: ما تسألني عن أمر.. إلا وأنت أعلم به مني!! فقال أبو بكر : وإن، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه.

            ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر؟ فقال: أنت أخبرنا به، فقال: على ذلك، فقال: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله.

            وشاور معهما سعيد بن زيد، وأسيد بن الحضير، وغيرهما من المهاجرين والأنصار، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخير بعدك، يرضى للرضا ويسخط للسخط، الذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه. عهد الصديق ووصيته رضي الله عنه

            ودخل عليه بعض الصحابة، فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظة؟ فقال أبو بكر: أبالله تخوفني؟ ! أقول: اللهم، إني استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من ورائك.

            ثم دعا عثمان، فقال: اكتب:

            بسم الله الرحمن الرحيم

            هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب: إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، فإن عدل.. فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والسلام عليكم ورحمة الله.

            ثم أمر بالكتاب فختمه، ثم أمر عثمان فخرج بالكتاب مختوما، فبايع الناس ورضوا به، ثم دعا أبو بكر عمر خاليا، فأوصاه بما أوصاه به، ثم خرج من عنده، فرفع أبو بكر يديه فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به، واجتهدت لهم رأيي، فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم، وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر، فاخلفني فيهم، فهم عبادك، ونواصيهم بيدك، أصلح لهم ولاتهم، واجعله من خلفائك الراشدين، وأصلح له رعيته).

            وأخرج ابن سعد والحاكم عن ابن مسعود، قال: (أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين استخلف عمر، وصاحبة موسى حين قالت: استأجره، والعزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه).

            وأخرج ابن عساكر عن سيار أبي حمزة، قال: (لما ثقل أبو بكر.. أشرف على الناس من كوة فقال: أيها الناس، إني قد عهدت عهدا، أفترضون به؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقام علي فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر، قال: فإنه عمر).

            وأخرج أحمد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (إن أبا بكر لما حضرته الوفاة.. قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الاثنين قال: فإن مت من ليلتي.. فلا تنتظروا بي الغد، فإن أحب الأيام والليالي إلى أقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

            وأخرج مالك عن عائشة رضي الله عنها: (أن أبا بكر نحلها جاد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة.. قال: يا بنية، والله ما من الناس أحد أحب إلي غنى منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه.. كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هماأخواك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله، فقلت: يا أبت، والله لو كان كذا وكذا... لتركته، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن ابنة خارجة، أراها جارية).

            وأخرجه ابن سعد، وقال في آخره: (قال: ذات بطن ابنة خارجة، قد ألقي في روعي أنها جارية، فاستوصي بها خيرا، فولدت أم كلثوم).

            وأخرج ابن سعد عن [ خالد بن أبي عزة ]: أن أبا بكر أوصى بخمس ماله، وقال: (آخذ من مالي ما أخذ الله من فيء المسلمين).

            وأخرج من وجه آخر عنه قال: (لأن أوصي بالخمس.. أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع.. أحب إلي من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى بالثلث.. لم يترك شيئا).

            وأخرج سعيد بن منصور في «سننه» عن الضحاك: (أن أبا بكر وعليا أوصيا بالخمس من أموالهما لمن لا يرث من ذوي قرابتهما).

            وأخرج عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (والله، ما ترك أبو بكر دينارا ولا درهما ضرب الله سكته).

            وأخرج ابن سعد وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:) لما ثقل أبو بكر.. تمثلت بهذا البيت:


            لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

            فكشف عن وجهه، وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد [ق: 19] انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما، وكفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت).

            وأخرج أحمد، عن عائشة رضي الله عنها: أنها تمثلت بهذا البيت وأبو بكر يقضي:


            وأبيض يستسقى الغمام بوجهه     ثمال اليتامى عصمة للأرامل

            فقال أبو بكر: (ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم).

            وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن أبي مليكة :) أن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس، ويعينها عبد الرحمن بن أبي بكر (.

            وأخرج ابن سعد عن سعيد بن المسيب : ( أن عمر - رضي الله عنه - صلى على أبي بكر بين القبر والمنبر، وكبر عليه أربعا).

            وأخرج عن عروة، والقاسم بن محمد : ( أن أبا بكر أوصى عائشة أن يدفن إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي.. حفر له وجعل رأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألصق اللحد بقبر الرسول صلى الله عليه وسلم).

            وأخرج عن ابن عمر قال: (نزل في حفرة أبي بكر: عمر وطلحة، وعثمان، وعبد الرحمن بن أبي بكر ).

            وأخرج من طرق عدة: (أنه دفن ليلا).

            وأخرج عن ابن المسيب: (أن أبا بكر لما مات.. ارتجت مكة، فقال أبو قحافة: ما هذا؟ قالوا: مات ابنك، قال: رزء جليل، من قام بالأمر بعده؟ قالوا: عمر، قال: صاحبه).

            وأخرج عن مجاهد: (أن أبا قحافة رد ميراثه من أبي بكر على ولد أبي بكر، ولم يعش أبو قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر وأياما، ومات في المحرم، سنة أربع عشرة، وهو ابن سبع وتسعين سنة).

            قال العلماء: لم يل الخلافة أحد في حياة أبيه إلا أبو بكر، ولم يرث خليفة أبوه إلا أبا بكر.

            وأخرج الحاكم عن ابن عمر قال: (ولي أبو بكر سنتين وسبعة أشهر).

            وفي «تاريخ ابن عساكر » بسنده عن الأصمعي قال: قال خفاف بن نندبة السلمي يبكي أبا بكر رضي الله تعالى عنه:


            ليس لحي فاعلمنه بقاء     وكل دنيا أمرها للفناء
            والملك في الأقوام مستودع     عارية والشرط فيه الأداء
            والمرء يسعى وله راصد     تندبه العين ونار الصداء
            يهرم أو يقتل أو قهره     يشكوه سقم ليس فيه شفاء
            إن أبا بكر هو الغيث إذ     لم تزرع الجوزاء بقلا بماء
            تالله لا يدرك أيامه     ذو مئزر ناش، ولا ذو رداء
            من يسع كي يدرك أيامه     مجتهد الشد بأرض فضاء

            التالي السابق


            الخدمات العلمية